الحديث في المسرح بين الأدب والأداة

ثقافة 2023/01/18
...

 عباس الغالبي

 إن أجمل ما يوفره التقاء الأجناس الأدبيّة وتداخلها فيما بينها يتمثل باستجلاء انتمائها للتنظيم وكشف رعايتها بعناصر متقاربة تحت خيمة واحدة تدعى بالأدب. الأدب الذي يزعم العارفون به وبماهيته أنه خلاصة الرؤية التصورية التي تجعل منه وسيلة تطرح من خلالها التجربة البشرية عبر منظومة من الكلمات المتراصفة التي تعبر عن هوية ثقافيّة مثقلة بالهم الإنساني وبالحياة. وبلا شك أن هذا التوصيف لا يشمل جنسا أدبيا من دون آخر، بل يفترض تعميمه على كل الأجناس الأدبيّة بما فيها الكتابة المسرحيّة.

 ولكن حينما يتعلّق الأمر في الممارسة الكتابيّة للمسرح بإداة فعلية تخصّها تعمل هذه الإداة على تغيير مقاصد التعبير من فرديّة إلى جمعية لتتم الإطاحة بالنص ويحوّله إلى مجرد إعداد تتكفل الأداة به حسب منظورها ورؤيتها، الأمر الذي مكّن هذه الإداة من فرض سلطتها بذريعة القوة الكامنة فيها لتفسير الشخصيّة بوصفها وجودا واقعيا. 

وهذا ما لا يقبله بعض نقاد المسرح أبرزهم وليمز ريموند والذي يرى بأنّ النقد يسير في طريق الظلال على إثر ادّعاءات واهمة كحق الممثل في تفسير دوره، والوجود شبه الإنساني للشخصيات، ولكنّه يصفها في الوقت نفسه: بأنّها ادعاءات لا يمكن أن تستقيم إلّا في وجود مثل هذا الوهم بأنَّ المسرحية جزء من الواقع، غير أنّ من العبث أن يشكو المرء من الانعطاف إلى وهم كهذا طالما أنّه جزء لا يتجزأ من الظروف التي تحكم الأداء التمثيلي. 

يضعنا ريموند أمام تساؤلات عديدة ولعل أهمّها يتعلق فيما طرحه ريموند وتبنيه رؤية جريئة بمقولات واضحة تماما. 

إذ هل هنالك معنى حقيقي تتلبّسه هذه المقولات أم أنّها توصيفات استشعرها ريموند من خلال معايشته للحراك المسرحي آنذاك؟، وهل المطلوب من الكتابة المسرحية أن تشعرنا بأنّنا نتعرّف على حقيقة الواقع أم توهمنا بتلك المعرفة؟، وبما أنه افترض تنظيما خاصا للكتابة يفترض ابتعادها عن الجمعية، فهل لنا أن نبحث عن مسرح مستقل بالمعنى الذي لا يُلزمه تأدية فروض سلطة التنظيم التي نشأت عليها الكتابة المسرحيّة سواء أكان الأمر مخصوصا بالاتجاه الطبيعي أم بما يختلف عنها إذ إن الاختلاف بين الطبيعية وبين أكثر المسرحيات التزاما بالاتجاه التقليدي يفصله فارق ضئيل جداً بحسب ريموند؟، بلا شك أن الحديث هنا لا يتعلق بتداخل الأجناس بقدر ما نريد الوقوف على نقطة مهمّة قد تميّز الكتابة المسرحيّة كونها أدبا أم لا، وقد أشار إليها إليوت بقوله: إنّ النظر إلى المسرحيّة كما لو كانت موجودة بوصفها أدبا فحسب، من دون الإشارة إلى وظيفتها على المسرح ليس إلّا جزءا من الخطأ الذي يشبه القول بأنّ المسرحيّات ليس بحاجة لأن تكون أدبا على الإطلاق. والفصل بين المسرحيّة والأدب هو أمر ليس مقبولا عقلا. 

في وقت يشكل المسرح بكل أشكاله ونشاطاته إعانة على هذا الفصل لدرجة جعلت من الكتّاب على الأغلب يكتبون للممثل لا للمسرح لكونه أدبا. ثمة من يذهب إلى أن فاعليّة سلطة الأداة قد جاءت بدعم حسِّي من طريقة التلقي للنص تتناسى المؤلف بسبب حديث الممثلين بنغمة مشتقة من الواقع اليومي. 

ولو أردنا أن نستأصل هذا الفهم من المسرح أو نخفف من وطأته على أقل تقدير علينا إذن أن نقوّض النسيان ولا يتأتى ذلك إلّا بالابتعاد عن كلِّ ما هو مشتق من الواقع اليومي.

ولكن هل يشكّل هذا الابتعاد رؤية حقيقيّة لتشكيل أدبيّة الكتابة المسرحيّة الخاصّة بها؟، ربّما لتقبّل حقيقة التعامل مع هذه الإشكاليّة الكبيرة من خلال تجاهل من يسترق السمع إلى النص اثناء كتابته وقع مراوغ، ولكنّه جدير بالاهتمام إذا تطلّب الأمر الوصول لما يهدف إليه ريموند وهو أن تستهدف الكتابة المسرحيّة الأزمات التي يتحدث عنها الإنسان بشكل مدغم، والكاتب المسرحي منوطا به إلقاء الضوء على ما هو غامض. 

خليق بنا هنا أن نقف عند ما يمكننا من تصوّر كتابة مسرحيّة تتخطى حدود المحادثة الممكنة لتحتفظ الكتابة المسرحيّة بأدبيتها، والتي تذهب بنا بالضرورة إلى تخيّل شخصيات مصوغة من الواقع لا نقلا عنه. 

في مسرحيّة (أدب سز) للكاتب علي العبادي نجد مثالا لذلك.

المرأة الأولى: ما هذا الهراء؟

ماذا تقولين؟

هذا معهدٌ مختلفٌ له معاييرُ مختلفة، هل فهمتِ ما هي رسالتهُ؟

ما هي أهدافه؟

حتى تأخذي هذا الرأيَ المسبقَ حولَه وتهمي بالمغادرة؟

المرأة الثانية: كلُّ أصحابِ المعاهدِ يقولونَ ما تفضلتِ به في بدايةِ الأمر، فضلا عن أنَّ الأمر واضحٌ لا يحتاجُ إلى فلسفة؟

المرأة الأولى: كيف؟

المرأة الثانية: لنتركَ المسمّيات، ما الهدفُ المرجو من هذا المشروع، وما هو تخصصهُ.

المرأة الثانية: العاهرات.

إنَّ نقطة الجدل التي يثيرها الحوار لا تتناسب مع تصورنا لحديث امرأتين عن افتتاح مشروع خاص بالنساء في الواقع، ولكن لأنَّ الكتابة المسرحيّة صناعة ماهرة دائما ما تحتفظ بأسلوبها الدرامي الذي يبحث عنه المسرح في سياق تخطي 

الممكن.

وعليه لا سبيل أمام التلقي سوى أن يستشعر اللحظة التي خرجت به عن حدود الشكل الواقعي والواهم في ذات الوقت ببقائه في الواقع، إنه تردد خفي تسشعره لحظة الشعور بالكتابة المسرحيّة بلا شك.

ولكنه سرعان ما يختفي بمجرد الانزلاق بتعبيرات مستقاة من المحادثة المألوفة والمتوقعة ولنا مثال في ذلك:

المرأة الأولى: هذا الوضعُ لا يطاق. 

المرأة الثانية: هوني على نفسِكْ.

المرأة الأولى: كيفَ، ألا ترينَ ما يحصل؟  

المرأة الثانية: كلنا في الهواء سواء.

المرأة الأولى: (بعصبيةٍ) أنا احتجُ على هذا الهواءِ، واحتجُ على هذه العباراتِ الجاهزة.

المرأة الثانية: (بهدوءٍ) لماذا؟

المرأة الأولى: يا لكِ من مُستَفِزة؟

المرأة الثانية: (بابتسامة) لماذا؟

المرأة الأولى: أنتِ لا تعرفينَ سوى أداة الاستفهام السمجة هذه؟

المرأة الثانية: (مستفهمة) كيف؟

المرأة الأولى: أها واللهِ، وتعرفينَ كيف، ولماذا، ومتى وأين... أَكادُ انفجرُ من التفكيرِ، وأنتِ تلوكينَ الوقتَ باستفهامِكِ غير المجدي.

المرأة الثانية: ومتى كانَ التفكيرُ في هذه الصالةِ مجدياً؟

على الرغم من جمال فلسفة الحوار إلّا أنّه تعبير جمعي ملامس للواقع بشكل كبير، ويجب على قلق الكاتب ازاء هذا المزج بين الفردي والجمعي أن تزيله الأداة إذا ما حاولنا الحفاظ على تلك اللحظة التي تستشعرها الكتابة المسرحية ككتابة أدبية، وهذا ما لا يمكن استحصاله.