السعادة.. المفتاح الذي يجعلنا أحياء

ثقافة 2023/01/18
...

صفاء ذياب 

(إنَّ التفسير الجيّد للسعادة أن يبدأ الوعي بكثرة الأهداف وما بينها من تضارب)

بهذه المقولة يفتتح نيكولاس وايت كتابه (السعادة موجز تاريخي)، لينطلق من خلالها إلى البحث عمّا يجعلنا سعداء، فالسعادة، تلك الكلمة السحرية التي يسعى الجميع للوصول إليها، لكن طرق الوصول تختلف بعدد الساعين إليها، لأنّها- بشكل أو بآخر- لا تملك تعريفاً محدداً، بل يمكن أن يعرّفها أيُّ واحدٍ منّا. فالسعادة هي المال، والحب، والطمأنينة، والوصول للهدف، والابتعاد عن ألم الآخرين، إلى ما لا نهاية من الوصفات التي تجعل كلاً منّا سعيداً بطريقته الخاصة. 



 فلسفة السعادة

منذ أن بدأ الإنسان بالتفكير، كانت كلمة السعادة مرافقةً له، هذه الكلمة المفتاحية لمن يريد أن يحيا كما يحب، وهو ما دفع الفلاسفة للبحث عنها، حتى لو كانت كلمة هلامية لا ماسك لها، ولا حدود، وهو ما يذكّرنا بمفهوم العجائبي عند تودوروف الذي يرى أنّه جنس متلاشٍ أبداً، لأنه يبدأ بلحظة، وينتهي باللحظة ذاتها، ليذهب إلى أجناس أخرى ويستقر عندها.

هذا الربط بين السعادة والعجائبي نابع من أنَّ الاثنين قادمان من المنطقة نفسها: الدهشة.

فالسعادة هي لحظة الدهشة بعد الوصول إلى شعور ما كان مختبئاً في أمر آخر ومرتبطا به، لكن هذا الأمر ليس شيئاً واحداً، بل لكلٍّ منّا أمره، وبالتالي باتت السعادة مثل العجائبي، متلاشية في اللحظة التي تنبثق منها.

ومن ثمَّ، فإنَّ هذا الربط لا يُلغي ما أراد الفلاسفة تقديمه في سبيل الوصول إلى السعادة، بدءاً من سقراط، وليس انتهاءً بآخر الفلاسفة المعاصرين، بحسب ما تنقل الباحثة ضحى الطلافيح.

فقد آمن سقراط بأنّ السعادة الحقيقية تتحقّق فقط للأشخاص الذين يتحلّون بالمعرفة والحكمة، وأنّ السعادة لا تنبع من المؤثّرات الخارجية، كالملذّات الجسدية، أو القوة، أو الثروة، ولكنَّها تنبع من عيش الإنسان لحياةٍ خيرية، تسمو بروحه، كما عدَّ سقراطُ السعادة أنّها غاية جميع الناس، وأنّ تحقيقها منوطٌ بالقيام بالأمور بطريقة صحيحة.

في حين عرّف أفلاطون السعادة بأنَّها الالتزام بالمبادئ الحياتية، وممارستها على أكمل وجه، واعتبر أنّ الشخص السعيد هو من تجعله هذه المبادئ أفضل، حتى يغدو فرداً فاعلاً وذا قيمة في المجتمع، فضلاً عن ذلك، فالسعادة لديه أحد أشكال نمو الشخصية؛ بمعنى أنَّها تتحقّق للإنسان كلّما شعر بالرضا عن الإنجازات التي يقوم بها، وليس بالضرورة أن يكسب شيئاً منها.

بينما يحدد تلميذ سقراط؛ أرسطو، مفهومه للسعادة بالتفكير العقلاني، عادّاً إيّاها بأنها وصول الإنسان للكمال الذاتي، الذي يتحقّق بالاعتماد على العقل، لتحقيق كلّ أمر خير فيه مصلحة للفرد طوال حياته، بما في ذلك الصحة، والمعرفة، والصداقة، والثروة، وغيرها.

وعلى الجانب الآخر، تقف الفلسفة الرواقية التي يرى فلاسفتها أنه يجب: استخدام الفلسفة في اقتناص السعادة الواقعية، تلك التي لا تحتاج إلى بريق جذّاب لامع، ولكنها تحمل القدر المريح من السرور والطمأنينة، وهي التي يسميها الفيلسوف أندريه كونتسبونفيل: الحكمة، أو بكلمات أكثر: السعادة من داخل الحقيقة، أو الشمس التي يستمتع بها ديوجين عن زخارف الإسكندر الأكبر.

 

الأمل والمعرفة

يشير مؤلف كتاب (السعادة موجز تاريخي) نيكولاس وايت إلى أنَّ مفهوم السعادة بدأ في أذهاننا البشرية بشكل بسيط وواضح، إذ كان يتلخَّص في الاستقرار وطمأنينة العيش، فحينها كانت تكفي الإنسان حياة كريمة آمنة مستقرّة ليكون سعيداً، إلا أنَّه مع التقدّم الزمني وتعقّد الحياة البشرية، لحق بالسعادة نصيبها من هذا التعقيد، وبناءً على هذا، رأى البعض أنَّ السعادة غاية لا يمكن إدراكها في هذه الحياة، في حين رأى البعض الآخر أنَّ تحقيق السعادة يعني البلوغ التام لكلِّ الرغبات، وإلَّا فلن تكون ثمة سعادة آنذاك، وهذا تماماً ما لم يعجب أفلاطون قبل أكثر من ألفي عام، فيروي عنه سقراط قوله: إنَّ الرغبة نقص، وهذا النقص يختزل من سعادتنا على الدوام.

ويذهب وايت إلى أن هناك مسبّبات عدّة للسعادة، من أهمها المتعة ومفهوم اللذة، وهذه الرؤية هي واحد من أكثر التفسيرات المقبولة على نطاق واسع لمعنى السعادة.

وعلى الرغم من جاذبية تلك الرؤية، فإنها تخفق لأسباب مباشرة تماماً، ومع ذلك فإننا يمكن أن نتعلّم الكثير من إخفاقها، فنحن يمكن أن نتعلّم ما أردناه من تفسير للسعادة، ومن شيء ما مما لم نستطع أن نحققه.

ويسرد وايت مفاهيم الفلاسفة حول المتعة ابتداءً بسقراط والرواقيين وصولاً إلى الفلاسفة الجدد، ليصل بعد ذلك إلى أن السعادة ربّما تمثّل بنيةً وانسجاماً، ويبيّن أنَّ الخطوة الأولى الحاسمة هي إيجاد سمة عامّة لكلِّ أهدافنا وإشباعاتنا، وهي السمة التي تضفي عليها القيمة.

والنتيجة في الواقع هي أنّه لا يوجد فعلياً أيُّ تضارب بين القيم المختلفة؛ لأنّه يوجد فقط سمة قيمية واحدة، وهي: كمّية اللذة أو درجة السرور الذي يجلبه شيء ما على نحوٍ دقيق، أو خطأ في الحساب.

إنَّ هذه الأخطاء يتمُّ تجنّبها، فالأفعال ببساطة ينبغي ضبطها لجعل هذا الكم أو القدر من السرور كبيراً قدر الإمكان.

ويصل وايت إلى نتيجة مفادها أنَّ شروط الحياة في أيّامنا هذه، لا تلائم الافتراضات المسبّقة الخاصة بالاستقرار الذي تقوم عليه الصورة المألوفة للسعادة.

فخطط مسارات المهنة والحياة يتمُ صنعها، ومع ذلك، فإنَّ هذه الخطط في كثير من المجتمعات يُتوقّع أن تكون أقل ثباتاً مما كانت عليه في العصور الأسبق.

 

السعادة والاستقرار

وبعيداً عمّا يذهب إليه وايت، ويحاول تأكيده من خلال الفلسفة القديمة والحديثة، فإنه يؤكّد- اتفاقاً مع فلاسفة آخرين- أن الاستقرار هو أصل السعادة، هذا الاستقرار الذي يمكن استلهامه في العمل أو اللذة أو الامتلاك أو أي شيء آخر يمكن أن يشعرنا بالاستقرار، وبالتالي بالسعادة.

لهذا يرى سبونفيل أنَّنا لا نرغب إلَّا في ما ينقصنا، وما إن نملكه، حتى نرغب في شيء آخر، وهكذا دواليك.

فإن كنّا لا نرغب إلَّا في ما نملكه، فإننا لن نحصل أبداً على ما نرغب، والنتيجة أنَّنا لن نكون سعداء أبداً، وهنا تبدو الرغبة عائقنا الأوّل نحو السعادة.

لأجل هذا رأى الأديب البريطاني الشهير بيرنارد شو أننّا نواجه كارثتين متضادتين، الأولى هي عندما لا تتحقّق رغباتنا، والثانية عندما تتحقّق، أو كما قال شوبنهاور، إنَّ الحياة تتأرجح مثل بندول، من اليمين إلى اليسار، من الألم إلى الضجر.

أمّا الألم فلأنَّنا نفتقد ما نرغبه، وأمّا الضجر فلأننا لم نعد نرغب فيه بعدما نلناه، أو لأنّنا علّقنا سعادتنا بالكلّية عليه، ثمَّ وجدناه أقل من إشباعها، لكنَّ هذا كلّه يتعلّق بالرغبة البعيدة، أو الرغبة التي لا نملك مقوّمات تحقيقها، كطالب يرغب بالنجاح من دون مذاكرة.

لأجل هذا رأى سبونفيل أنَّ السعادة تتحقّق عندما نرغب في ما نملك وفي ما نفعل أو في ما موجود، كطالب آخر يبذل وسعه في المذاكرة والجد، ثمَّ هو ينتظر بعد ذلك النجاح بأملٍ منطقي، وهذا ما يمكن تسميته بالإرادة، والإرادة هي التي تجعلنا سعداء، ثمَّ  تجعلنا نخرج من التمركز حول الرغبات، إلى التمركز حول السعي والشعور بالإنجاز، لذا فنحن بإمكاننا أن نكون سعداء لأنَّنا نفعل ما نرغب فيه بالفعل، تلك السعادة الفاعلة هي سعادة الفعل نفسه لا سعادة الأمل، فهي لا تأمل شيئا، وإنّما تسعى إليه، إنَّها سعادة المرء الحكيم في واقعه الذي يحياه، بأمله في ما يقدر على فعله ويستطيع تحقيقه بيديه لا سعادة الآمل في ما لا يقدر عليه، أو تعوزه المعرفة والقدرة لتحقيقه.

هنا يكمن الخلاف الحقيقي بين الأمل والإرادة، فالأوّل يمنينا بما لا يعتمد علينا، بينما الثاني يرغبنا في ما يعتمد على سعينا وقدرتنا، بحسب ما يشير إليه تقرير لمؤسسة رواسخ.

 

الشعور بالسعادة

يرى الباحث إبراهيم هلال أنَّ السعادة هي شعور ممكن دائماً؛ فهي لا تكمن في سعادة المترفين وذوي البطون المشبعة؛ بل تكمن في بهجة الحياة حينما نحبّ، وحينما نبدع فنّاً، وحينما نسعد بولادة حقيقة ما.

نحن نسعد بكلّ تغيير بهيج لما يحدث لنا.

إذ إنّه لا ينبغي أن نتأمّل الوجود وأن ننعم بدفء أحضان مساحة الراحة والروتين؛ إنّما علينا الذهاب دوماً لملاقاة الحدث وتعلّم الجديد.

حدث ما؛ هو ذاك الذي يغيّر نظام العالم.

مضيفاً: وفي عالم يكاد ييأس من قدرته على السعادة، لما يحصل فيه من ضروب البؤس والتعاسة، تبقى السعادة- كما أخبرنا الإمام الغزالي- في معرفة الإنسان لنفسه وقلبه؛ ومن ثمَّ معرفته لخالقه، فالقلب مخلوق ليسعد بالاقتراب من خالقه، ومفطور على لذة المعرفة الروحانية الخالصة؛ لكن يخبرنا الفيلسوف زيغمونت باومان أنَّ السعادة كفاح وليست مكافأة، مكابدة وليست فرحاً دائماً، وهذا هو سر الحياة.

لكن ما الذي يخبرنا به العلم الحديث عن كيفية فهم الإنسان لشعور السعادة؟.

بعيداً عن العلم وتفكيك الدماغ وآلية إحساسه بالسعادة، تبقى هذه الكلمة السحرية التي يبحث عنها كلُّ واحد منّا هدفاً لنا جميعاً، لأنها بالتالي تعطينا الإحساس بالحياة والطمأنينة والاستقرار.. إنها البيت الذي نريد أن نسكنه 

جميعنا.