عن الذاكرة والوجدان والهوية

ثقافة 2023/01/18
...

أمجد ياسين

تشخصن وتؤنث أسطورة فارسية ثالوث العشق الإلهي المتمثل بالجمال والحب والشوق، وتجعل منهن أخوات تعشن بسعادة داخل “كرة نور ذكاء الله”. وحين ترى جمال نفسها في مرآتها ذات برهة، تبتسم، فيولد آلاف الملائكة من تلك الابتسامة. أما حب التي كانت تعيش دوما القرب منها وفي خدمتها فتفزعها ابتسامتها وتهرب، ولأن شوق الصغرى تخشى البقاء وحيدة تتعلق بكتفها. ومن وقتها يعيش الشوق مع الحب ويرافقه في زيارة أنفس البشر وإشعالها بالرغبة والتوق إلى الجمال المفقود.
هو ساحة إبداع يشترك فيها كل من ينطق حروفها ويكتب كلماتها، لتصبح على مر التاريخ ذاكرته ووجدانه، ونبضا يتدفق فجأة كلما جارعليه الزمن، لتداعب أوزانه وقوافية نغما هنا وقضية هناك.

هو ذاكرتنا الجمعية، وأنس ليالينا، وحرقة دمنا، ولساننا الصادح، وصراخ صمتنا، هويتنا التي لا فكاك منها، وإرثنا الذي نتعلق بأستاره، وجلبابنا الذي يرتدينا كلما حن طائر لعشه الأول.

«الشعر بوصفه تاريخا للوجدان العربي المشترك»، سؤال ملحق الصباح الثقافي الذي انطلقنا به نجوب قاعات مهرجان الشارقة للشعر العربي في دورته الـ 19 لنقف على أجوبة من امتهنوا الشعر شوقا. 

أبحث عن الجمال

أنا أكتب الشعر العمودي وشعر التفعيلة، وأنحاز للنص الجميل، قالت الشاعرة شيخة المطيري من دولة الإمارات العربية المتحدة، وأضافت: «ربما في فترة زمنية معينة لم أكن أؤمن بأي شكل آخر، ولكن بعد أن أحدثت تصالحا بيني وبين كل النصوص في الحياة، بدأت أبحث عن الجمال،  عن  شيء جميل يطرق باب قلبي ويدخل إليه بكل سلاسة، هذا بالنسبة لي بوصفي قارئة، ولكن بوصفي كاتبة ما زلت أنتصر للشعر العمودي.

للوهلة الأولى، ربما نجدها عبارة مستهلكة، وهي أن الشعر ديوان العرب أو تاريخ لوجدانهم المشترك ، ولكن عندما نتأملها ونسقطها على كل يوم يعيشه الشاعر، نجد أن الأمر حقيقي، والدليل بمجرد أن تضع بيت شعر على مواقع التواصل الاجتماعي تجد تفاعلا كبيرا وكأن الناس تريد أن تقول: نعم أردت أن أكتب هذا الكلام وهذه المشاعر ولكني لم أستطع، فأنت كشاعر تستطيع اليوم أن تنقل وجدان الأمة وتتحدث عن المشاعر وتتخيل ما لا يستطيع إنسان عادي أن يتخيله، ولذلك عندما أكتب نصا عن حادثة معينة لم أعشها، يكفيني أني تخيلتها أو رأيتها من بعيد ونقلت مشاعر الذين عاشوها عن طريق القصيدة، فأعتقد بأن الشعر ما زال ديوان العرب وإرثهم وذاكرتهم الوجدانية المشتركة».

أمة شعر

نحن أمة شعر بالتأكيد، قال الشاعر خالد الحسن من العراق، وأضاف، إذا عدنا إلى أبعد من الشعر الجاهلي سنجد أن نص انخدوانا وهي شاعرة سومرية في العراق عالق في ذاكرتنا الجمعية، نحن أمراء الكلام كما يقال، لهذا يرتبط الشعر بالوجدان العربي وبالناس، وبنا نحن كشعراء، لماذا اخترنا أن نكون شعراء مثلا؟

لأننا تأثرنا بالبيئة الشعرية المحيطة.

قلما نجد، بيتا يخلو من متذوق للشعر الفصيح أو العامي، خاصة في العراق، وكما قال نزار قباني؛ شعراء العراق بعدد نخيله.

نحن تأثرنا بالتأكيد والشعراء العرب أيضا بالتاريخ، الشعر هو تاريخ الأمة العربية، وهو تاريخ شعري، نستند إليه الآن وكذلك من سبقنا، هناك ارتباط وثيق بين القصيدة والوجدان العربي وبين تاريخنا كأمة.

تخيل معي، أن نبينا محمد (ص) منح بردته لشاعر ولم يمنحها لملك، هذا دليل على تقديره للشعر، ورؤيته على أنه لسان حال الأمة. 

أتقرب إلى الله بالشعر

يشكر الشاعر حازم مبروك عطية من مصر، الشعر لأنه يحمينا ، كما يقول، كلما دق الخوف بابنا.

ويتابع قائلا: « الشعر هو الذي رفع أقواما ووضع آخرين. نحن نحفظ قول الحطيئة:

 قوم هم الأنف والأذناب غيرهم،

 ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا 

بيت شعري واحد رفع قدر قبيلة.

هذا يوضح لنا كيف يستطيع بيت شعري واحد أن يعطي للناس، وللعرب تحديدا، حياة وتاريخا وأرضا ثابتة يقفون عليها جميعا.

على تنوع الأشكال الشعرية أو ما يتداخل معها ، يقف الشعر حارسا حقيقيا لذاكرتنا العربية المشتركة، ففي قصيدتي التي قرأتها في المهرجان صوفية واضحة، الصوفية تنفح الشعر، وتجعله أقرب للأشياء المقدسة، فهو يضفي على القصيدة وشاح صدق ، وأنا أتقرب إلى الله بالشعر، وعليه يكتنز الشعر ويستوعب الكثير من الأشكال والتعابير والاتجاهات الفكرية».

بصمة عربية

يجد الشاعر حسن الزهراني من المملكة العربية السعودية، أن الشعر بصمة عربية خاصة على المستوى العالمي، ويقول: « أعتقد بأن تحدي الله سبحانه وتعالى للأمم كان بمستوى أبداعهم في المجالات التي يجيدونها، فجاء للعرب بما هم مبدعون فيه وهو اللغة، وجاء الشعر وهذا النغم الشجي والنبضات المتحدة، لتجمع العرب تحت سقف واحد، برغم اختلافهم في عدد من القضايا ، فالشعر الذي يسري في دمائهم  يوحدهم ويجعل منهم أمة واحدة ولسان عشق واحدا.

واضاف، أجد ان القصيدة السعودية تواكب العصر وتتماشى مع كل فنونه ، في الوقت الذي كنا فيه نتخيل أن الشعر الحديث والومضة الشعرية وقصيدة النثر ستاخذ الشعراء من القصيدة العمودية، لكن بحق ، للقصيدة العمودية حضور فاعل إلى جانب بقية أنواع ومدارس الشعر التي تسري بسلاسة إلى الجيل الجديد الذي ربما لم يتعود على القصيدة العمودية، وهناك من الشعراء على مستوى المملكة والوطن العربي قد حدثوا في القصيدة العمودية بطريقة وأسلوب فاتنين جدا.

أنا في غاية السرور أن تحدث القصيدة العمودية، التي قيل إنها أصبحت تراثا، وتصبح قادرة على الإطراب والدخول إلى بوابات القلوب من جديد .

في النهاية كل هذا التنوع يمثل تاريخا وجدانيا مشتركا لنا كعرب وحتى يتجاوز حدودنا ليصبح هوية وسمة نعرف بها على المستوى العالمي». 

الاحتفاء بالجمال

هذه مشاركتي الأولى في مهرجان الشارقة للشعر العربي الذي يمثل قبلة ومحجة لكبار الشعراء والأدباء في الوطن العربي، أنا سعيد جدا لتواجدي في الشارقة لأنها كانت وما زالت تراهن على الأدب والشعر، قال الشاعر حسام الشيخ من سلطنة عُمان، وأضاف: «الشعر عندي مساحة الجمال التي نهرب إليها من حياتنا الطاحنة، من شتاتنا، من غربتنا، من حروبنا، نلجأ دائما إلى الشعر.

وبلا شك فإن الشعر كان ولا يزال جواز العبور إلى الذاكرة العربية، وإلى الوجدان العربي، لأنه لا يعترف بالحدود الجغرافية والسياسية، هو لا يعترف إلا بملامح  الجمال وحدوده.

ويمكنني القول إن الذائقة الشعرية في عُمان غير مستقرة على اتجاه واحد.

بلا شك أن عمان تمثل امتدادا للجزيرة العربية وللوطن العربي ، نحن بوابة الشرق، بشكل وبآخر نتأثر بمناخ الشعر العربي في الوطن العربي، فتارة تتجه البوصلة إلى النص الفصيح والعمودي، وتارة أخرى إلى الشعر الحر أو الشعر الشعبي، لكنها دائما ما تعود وتنتصر إلى الشعر الذي يستحق، وأنا بوصلتي دائما إلى الشعر العراقي المعاصر الذي نرى في ملامحه كل الأسماء والقامات الشعرية العراقية على مر التاريخ. 

«من ينظر إلى جغرافية المدعويين في مهرجان الشارقة للشعر العربي في دورته الـ 19، يدرك تماما أن هناك حافظة حقيقية للوجدان العربي»، قال الشاعر إبراهيم السالمي من سلطنة عمان، وأضاف:» في هذا المهرجان نجد مستويات شعرية مختلفة، هناك من يمتلك تجربة شعرية غنية وباعا طويلا في الشعر وهناك من هو في منتصف الطريق أو في مقتبل تجربته الشعرية ، هناك تنوع جغرافي في الحضور العربي، وهذا التنوع يغني ويسهم في حفظ الذاكرة العربية بصورة عامة وكذلك يغني التجربة العربية الحديثة في الشعر».

لا حياة من دون شعر

يرى الشاعر حسن عابد من مملكة البحرين، أن الشعر في العالم العربي الآن في صعود آخر، وهو متقد ، وجماهيره عادت كما السابق متذوقة ومتابعة له .

يقول: « في البحرين على سبيل المثال لا يمكن تخيل الحياة من دون شعر،  عندما نتكلم عن مناسبات دينية أو رسمية، بل وفي كل فعالية تقام لا بد من أن يكون الشعر حاضرا فيها بقوة.

وعليه لا يمكن أن يولد الإنسان في البحرين من دون أن يكون متذوقا جيدا للشعر.

الشعر هوية عابرة للحدود، والفصيح منه أينما كان وخصوصا إذا كان الشاعر مجيدا، يدخل القلوب مباشرة ، لا حدود تصمد أمام الشعر ، هو عابر للقارات .

في البحرين لابد من أن تمر الذائقة بمحطات شعرية مهمة مثل تجربة الشاعر قاسم حداد مثلا، هذا الإرث هو منطلق لتجارب شعرية أخرى، هو ممهد للطريق ولكنه في الوقت نفسه عبء لأنه يرفع من سقف التحدي أمام من أتى بعده من الشعراء.

من هنا تمثل التجارب الشعرية العربية المتميزة محطات وإرثا وجدانيا عابرا للحدود ومعززا للمشتركات بين شعوب المنطقة».