الحياة السرية لزوجات بابا ساغي

ثقافة 2023/01/18
...

جينا سلطان

كسب الأدب النيجيري متابعة عالمية أوسع عقب نيل “وول سوينكا” جائزة نوبل، ولاسيما حين أطر الإهمال الكلي للذات الإنسانية كنتيجة حتمية للعبودية بكافة أشكالها. واستمدت روايته “موسم الفوضى” أصالتها من خصوصية النيجر كبلد زراعي مزقته تلك العبودية، فتوجب على كهنته زراعة الشعب مجدداً من البذرة وحتى الغرسة ثم الشجرة فالثمرة.
وبذلك عكس صدى الآلام الكبيرة التي خاضها جيله الذي ولد ليعيش أزمة طويلة، تجسدت في حصار استعماري خانق أذن بولادة جيل اعتنق العنف والاغتيالات سلاحاً يتحدى كارتل اللصوصية والإجرام المنظم، وأذياله من الحكومات المحلية المتعاقبة، فبذر الخراب الأخلاقي في جنبات حضارة الكاكاو، ورمم شتات الأنا القومية.

ومن عباءة الكاتب العظيم تخرج شاعرة وكاتبة نسوية، تستلهم الأرض أيقونة تلملم شذرات الهوية الفردية للأنا الأنثوية المبعثرة، بفعل تشرش الجهل وتعرشه في قلوب الأحفاد ـ الثمار، الذين اجترح المؤسسون لأجلهم معجزة البقاء.

«قال الملك تمنح أحشاء المانغا الصفراء الكبيرة الحياة الأبدية، ولكن حذار فإن للشجرة جذوراً مسمومة. 

وحدهم الشجعان من يأكلون المانغا ويعيشون.. لكن هل يمكن لأي إنسان أن يتباهى بالقوة والشجاعة قبل أن يتناول المانغا ويعيش”.

بهذه المقولة البسيطة المتكئة على الإرث الشعبي تختزل الكاتبة النيجيرية “لولا شونين” في روايتها “الحياة السرية لزوجات بابا ساغي” الجدال العقيم بين سلطتي الأنوثة والذكورة.

فتجرد بطلتها بولنله من فخرها كفتاة مثقفة متعلمة وسط مجتمع الجهل والجهال، حين تجعلها رهينة ذكرى الاغتصاب الذي سلبها عفتها، وهي في الخامسة عشرة، وجعلها بحكم الميتة.

بالمقابل، تؤطر تعثر الرجال بالكبرياء قبل وقوعهم في هاويته، فتجعل فحولة بطلها بابا ساغي جوفاء، لا حياة فيها.

وبالتالي، يغدو لقاؤهما معادلا لإطلاق شرارة الحياة التي تذكي بوار النفوس الميتة.

   تبتدئ الرواية بحيرة رجل مزواج يدعى بابا ساغي، بسبب فشل زوجته الرابعة بولنله في الإنجاب، عقب عامين من الزواج.

مما يشكل مدخلا للتطرق إلى نرجسية الرجل في المجتمعات الأبوية، عبر مكمن العجز في الإنسان، والمتمثل في الخوف من الموت، ومواجهته بالخلود من خلال ضمان استمرارية النسل من الآباء إلى الأبناء فالأحفاد، ليصبح امتدادا بيولوجيا للفردية، التي تعتبر الذرية جزءا من الأنا.

من هذا المبدأ يتحول اتخاذ “شونين” لنسب العقم إلى الزوجة المثقفة عاملا محرضا على مناقشة عقم مجتمع بأسره، يرفض التغيير ويواجه بالسخرية زواج بولنله ذات التعليم الجامعي من رجل أمي مزواج.. بالمقابل، يتحول اغتصاب بولنله الطالبة في مرحلة الدراسة الثانوية والذي يمكن عده أيضا امتدادا للسخرية من تعليم الفتاة، إلى مسوغ لجلد الذات عند الضحية طوال عشرة أعوام.

وهو ما يتحول إلى باعث على الارتماء في أحضان أسرة بديلة ممتدة تخلصاً من شعور القذارة الذي ظل يلاحقها بعد أن دنسها عابر طريق مترف وحولها إلى المرأة المعطوبة، ليصبح خيار الزواج من بابا ساغي حلاً لإنهاء الحرب بين ما كانته وما صارت إليه.

لا تدين المؤلفة بابا ساغي، بل بالعكس تحيي شجاعته في الاقتران بامرأة جامعية مثقفة تجسد له أمل الاقتراب من حلمه في التعلم، والذي اضطر للتنازل عنه عندما أصبح في طفولته المبكرة المعيل الوحيد لأمه.. وبالتالي يبدو قلقه بعدم إنجاب بولنله مفهوما، إذ يجسد هاجسا غير مدرك في الحصول على ثمرة نوعية، تضاف إلى أبنائه الآخرين الذين حرص على تعليمهم.

لذلك تأتيه الصدمة القاتلة عند اكتشافه لعقمه، ولخيانة زوجاته الثلاثة له، لتكون المعطوبة والتالفة قد اختارت الطريق الأكثر فضيلة في الحياة، بينما لجأت الأخريات إلى البدائل للإخصاب، على غرار ما فعلت الزوجة في مسرحية العاقر لجون شتاينبك.

تبرز “شونين” بشكل غير مباشر الجانب الأهم في شخصية بابا ساغي، والمتمثل في تجاهل غياب العذرية عند زوجتيه، والذي اعتبرته بولنله في حالتها دنسا وعطبا، التمست التعافي منه.

فهذا الرجل الأمي نجح في استيعاب هدوئها المقلق، فلم يطرح الأسئلة التي تفضي إلى انكشاف هويتها المشروخة بفعل الاغتصاب، بل قبلها كما هي، وظل سعيدا معها حتى عندما أعوزتها الكلمات وأعجزتها عن التواصل.

وبذلك رمم شرخها الداخلي، وساعدها على استعادة حياتها الضائعة، فأثمنت عاليا روحه السخية العطوفة، واجتازت بفضله مخاضة الخذلان.

أما الحادثة المحركة للرواية فتتخذ قالباً أنثويا خالصا، يلائم التوجه النسوي لـ”شونين”، والذي يصب في منحى العلاقة الأسرية المبنية على التكامل بين الرجال والنساء، والقائمة على الاحترام والتقدير المتبادل.

فمع استشعار الزوجة الأولى أيا ساغي خطر ضرتها المثقفة، تبدأ بالكيد لها، وحين تفشل في إزاحتها عن قلب بابا ساغي (أبا ساغي) تدس السم في طعامها، فيودي بحياة ابنتها الكبرى ساغي، عوضا عن قتل غريمتها.

وأثناء تخبط الزوجات في دوامة الكراهية والحيرة تسفر المؤلفة عن دخيلة كل واحدة منهن، وتمرر بعض الأساليب التي تعتمدها النساء في نيجيريا لمجالدة الحياة، وضمان ذريتهن.

فأيا ساغي المحبة لتكديس المال وتنميته تشتري إيشولا الفقير، فيصبح اسمه بابا ساغي (أبو ساغي)، وتغدو المعيلة الفعلية للأسرة الكبيرة، دون أن يؤثر ذلك على مواردها، إذ يزداد عدد محلاتها لبيع الإسمنت وتزدهر تجارتها وتكثر ثروتها، فترسم طريقها نحو الحرية، والتي تدركها في سياق استرداد أموالها من بابا ساغي عقب موته، وإضافتها إلى رأسمالها.

   ومن خلال تجربة الزوجة الثانية أيا فمي تستعيد المؤلفة إرث العبودية القديم المتصل باجتثاث الإنسان من جذوره، وبذره ضمن تربة معادية لنشأته، بحيث تعكس الوجه المعاصر للرق والمتمثل في البشر المكرسين لخدمة البيوت.

فعقب انسحاق والديها تحت شجرة عملاقة ودفنهما وفق الطريقة الإسلامية، يستولي شقيق الأب على ميراث الطفلة المدللة ذات الأعوام الثمانية، ويبعها للعبودية، كي تخدم عائلة امرأة متوحشة، أطلقت على نفسها لقب الجدة، فتسلخ خمسة عشر عاما من حياتها.

وأثناء متواليات العقاب المفرط في قسوته لدى أقل هفوة، تلتقي بأحد الدعاة المسيحيين، فينجح في تخليصها من عبء الكراهية، عبر تحويلها إلى مسارب الانتقام المسربل بعباءة العدالة، لتتوج تخبطها بالهرب في الثالث والعشرين من عمرها، بعد عرض نفسها كزوجة على بابا ساغي من خلال وساطة سائقه.

أما أيا توبة عاشقة الأرض الدؤوبة، المجردة من مزايا الحسن والجمال، فيقايضها والدها الفلاح مقابل كيس من البطاطا، فتتشارك مع بولنله في لملمة دنس الأرض الذي خلفته أيا ساغي وأيا فمي.

وبالتالي تمثل الدنس في الرواية بالخيانة واستغفال الإنسان الطيب المعادلين لاغتصاب بولنله، وعادلت نزاهة الأخيرة وبساطة أيا توبة مفهوم التطهير واستعادة الذات.

لذلك يفارق بولنله الشعور بالدنس عقب اكتشاف بابا ساغي لعقمه، فتختار العودة إلى منزل أهلها لتلتحق بمسار حياتها كخريجة جامعية، بعد أن هزها المكوث في منزله فأيقظها من غفلتها، وحررها من التوقعات المثالية لأمها، بينما تصبح الزوجات الثلاث حبيسات جدران المكان، فيما يحظى أبنائهن بسقف يأويهم ووالد يعترف بهم.