قراءةٌ في أعمال الفنان حسن عائد

ثقافة 2023/01/19
...

 طالب عبد العزيز 


  لا ينبغي أنْ تُحملَ ورقتنا هذه على محامل النقد، ولا ينبغي لنا ذلك، فهذه مفازة لها أعلامها، من العارفين، الخائضين مخاضة الرؤيا والألوان والأشكال، المطَّلعين ما فيه الكفاية على تاريخ الفنون والمدارس الفنيَّة، قديمها وحديثها، الذاهبين بكليتهم الى التأويل واستخلاص المكنون والغامض والمراد تناوله... وما أنا فيها إلّا المتذوق، المتأمّل الذي يجد الدهشة أحيانا في ما يُعاينُ ويُشاهد، فيعنُّ له أن يكتب في هذه أحيانا.

  في واحدة مما عاينته وسررت به كانت جملة الأعمال الفنيَّة التي أطلعني عليها الفنان الشاب حسن عائد، الذي جمع مادته مما نقرؤه ونشاهده ونلمسه ونفكر به، فجاء لنا بألوان تتداخل، وخطوط تتقاطع مع جمل بالعربيّة، مقروءة مرةً، ومبهمة أكثر من مرة. الخطوط تُحيلني أحياناً الى رقم الطين في بلاد سومر، وخربشان إنساننا الأول، هكذا، رحت أقرأ الخطوط، ما اتضح منها وغُمّ عليَّ، ثم تبيّن لي أنه مولود في أور، حيث الماء والطين، مادة خلقنا الأولى، وإنْ لم تبدُ لي كذلك، فقد ظلَّ متخفياً خلفها في أكثر من عمل له، وسواء أكان قد سعى اليه، أو أنني أوهمتُ بذلك، فقد رأيتُ بعضَ مقاصده في بعضِ ما أنشأ بالحرف شاكر حسن آل سعيد، ونجا المهداوي، وربما أحالني الى كاندنسكي في مثلثاته، وهناك مناطق تناول تكشف عن موضوعات وألوان سأحتفظ لنفسي في قراءتها، باعتماد نظرية تعدد مستويات القراءة.

  في لوحة أحالتني الى المعوذات القرآنيَّة الثلاث (الإخلاص، الناس، الفلق) يستعير حسن عائد من التعويذة شكلها المتداوَل والمألوف، ومما يعلّقه العامة على جدران منازلهم، فنجد سورة الإخلاص في الأعلى، وفي أدناها الفلق والناس منفصلتين، في تثليث شكليٍّ، منح العمل قدسيَّة.. هكذا، ودونما كتابة النصّ القرآني، إنَّما كتابة أخرى، بحروف بدت مقلوبة، أو مطلسمة، تقصَّدها، لم أستطع قراءة بعضها، لكنَّ اللوحة هذه كانت واحدةً مما أحببت، وأطلتُ في مشاهدتها. يؤطر حسنٌ اللوحة بألوان الماء، ويغلّبُ الأزرقَ عليها فتسوّد، وينقّط الحاشية بالأبيض، فتبدو استعارة واضحة لفواصل ما بين السور، التي نراها في الكتاب، فنتوقف عندها، منصتين الى ما سيُتلى علينا.. وهناك تحريق لأرضيَّة الورقة (اللوحة) يُحيلنا الى زمن النسَّاخ الأوائل، في مدننا العربيَّة الإسلاميَّة، والى خطاطي الحرف القرآني، الذين لم يكن النورُ محيطاً بقراطيسهم كما يجب.  

    هناك أعمال أخرَ له وجدتها مختلفةً في مواضيعها، فهو يستلّها من موروثنا الشعبي. هناك صورةٌ مختلقة في حلم، أو حكاية همست بها إحدى الجدّات، أو رسمة تفتق عنها جدار طينيٍّ، ظلَّ حسن عائد فيها محتفظاً بمادته اللونيَّة، مستثمراً الأزرق مرةً، فيأخذنا إلى أوردتنا وشرايينا، ليُرينا قلوبنا معروقة بالدم، صحيحة أو سقيمة بعُقل كبيرة، والشكل الكمثري واضح في بعضها، معززاً بالأحمر المدبوغ بالأسود، والأصفر الذي يشي بما نعتلُّ به ونخشاه، مقترَحاً منه في أسفل اللوحة، الأصفر مادتنا إلى الموت، ولن تشفع لنا مسلَّة الحروف المقلوبة إلى جانبها، وقد أحاطها بمربع كبير، هي جهاتنا التي لا نفرُّ منها إلّا لها، مادة تحولنا في الفصول، أو عناصر خلقنا الأربعة (الماء والتراب والهواء والنار). 

  كنتُ أعتقد بأنَّ الألوان المائيَّة عند معظم الفنانين تشكّل محطة استراحة لونيَّة، يتنفّس الفنان من خلالها شيئاً مما تجود الطبيعة به، أو يسترد بها ما تخطاه من الطفولة والأنوثة في أجساد النساء، أو هي محطة لونيَّة يستعرض فيها مهارته في استلال المباهج من عتمة الحياة والألوان، وتتبعتُ أثر ذلك عند فنانين بصريين وعراقيين وغيرهم - وهذا أيضاً اعتقادٌ شخصي- غير أنّني وجدتُه عند حسن عائد سبيلاً الى سبر أغوار النفس الأخرى، وفرصة للوقوف على الجانب المظلم فينا، بل والكشف عما استفحل فينا من فجائع وآلام. المربعات المعتمة الصغيرة، والمجاورة الى حشد الجمل الشعريَّة، المنقوشة على قطعة الحجر، التي بدت لي كما لو أنَّها شاهدة قبر، أو دِكَّة مفردة، هي مما يُستراح عليها في القفر، ويُتأَمَّلُ عندها في المصائر الكليَّة للإنسان، هذه الوحشة المتروكة في البريّة الجليّة، بخلفيتها التراب، وبقدمِها في الفقد والأقدار، الموثوقة الى مثلثات مسننةٍ خمسة، والتي لم يزدها الحرف العربي إلا يقيناً بالزوال. ألم يكتب عليها: «أنْ تقيم بلا رغبةٍ في شيءٍ، فقط المقعدُ الصغيرُ الذي تجلس عليه، ربما أو الشجرة أمامك في الفراغ... أليس الوصول أنْ تبقى حيثُ أنت»؟ 

   كثيراً ما يَمتحنُ حسن عائد قدرته في قراءة الشعر عبر اللوحة - مكانه الأثير في التعبير- فيختار الشكل واللون المناسبين، ساعةَ يريد إشراك النص الشعري في عمله. وفي موروثنا الفني الكثير من أعمال كانت حاضرة عنده، بكل تأكيد، وربما جرت العادة عند الفنانين بأن يكون الشعرُ أو الجزء المختار منه ثانوياً أو هامشياً في اللوحة، فالفنان يحرص على إظهار مقدرته في التعبير عن فهمه للشعر، فهو يعيد صوغ الجمل الشعريَّة لونيَّاً، أو يحاول إعادة تشكيلها بحسب مبتغاه. لكنَّ (عائداً) يرى أنَّ اختيار المتن الشعري كله ممكنٌ في إنشاء لوحة، وهو إجراء يحسبُ له بحسب علمي، فنراه يذهب إلى إعادة نسخ القصيدة بقلمه، ثم يدمغها بحجته وألوانه لتبدو على وفق ما يرى، وتسعى إليه فرشاته. 

  إقران الشعر باللون مهمّة جميلة بكلِّ تأكيد، وربما كانت إسهامةً أخرى في توصيل القصيدة، وفعل مثل هذا لا يكتفي بجعل قراءة الشعر ممكنة، إنّما هو إشراك جمالي في فهم العملين (الشعر واللوحة) معاً. الفنان حسن عائد يقتفي عارفاً، أثر أسلافه النسَّاخين والرسامين والملوّنين، حاملي راية الجمال الى القفر الموحش الذي

يُحيط بنا.