فنُّ البورتريهات في {جوهرة المراصد}

ثقافة 2023/01/21
...

 دعد ديب


الوجه خزّان الحواس التعبيريَّة، هو جسر للوصول إلى أعماق النفس، فالكثير من الصور المرسومة والمنحوتة  نقلت إلينا تاريخًا كاملًا للحضارات القديمة التي عرفتها المنطقة عبر التماثيل والصور التي ملأت جدران المعابد والكاتدرائيات حيث شغلتهم فكرة الخلود عبر التجسيد الصوري أو ما أطلق عليه البورتريه، فالبورتريه الكلمة المستعارة من الفن التشكيلي بهدف رسم ملامح شخصية ما والتي يخطف منها ملامح الفكرة ليعيد صبها في قالب آخر، عبر رسم بالكلمات لأدق التفاصيل الشخصية المعبرة عن ذات الموضوع الذي يراد تجسيده بما أطلق عليه البورتريه الصحفي بوصفه تجسيدا صحفيا عبر الكلمات لشخصية أو مشهد أو فكرة المراد إبرازها ودفعها إلى الواجهة من خلال القدرة على تكثيف ورسم أهم النقاط التي توضح ملامحها التي تتناول أهم وأصدق ما فيها، أو تلك التي يعتبرها الكاتب الفنان النقطة الأكثر جلاء والتي يود التركيز عليها وتوظيف البصيرة والبصر في النفاذ إلى عمق الشخصية وإبراز أهم معالمها من خلال تسليط الضوء على الفكرة والتعريف بها ورصد الأبعاد النفسية والملمح الفكري المميز فيها والمحطة الأهم في تاريخها والتعبير المرادف للمعنى البروفايل وفق إفيس أنييس في "كتاب الصحافة" هو جعل شخصية ما تحيا عن طريق الكلمات، حيث يتم التفريق بين رسم سيرة حياتية لتاريخ شخصية ما وبين رسم بروفايل لها عبر رصد أهم ما يميزه في المسألة التي صاغها وبرز فيها.  

وهذا ما جسده قاسم حداد في كتابه "جوهرة المراصد، دفتر الحضور والغياب" من إصدار روايات (مجموعة كلمات) عام 2021 في استهلال المقدمة لعبد الله السفر "دفتر في عناية الذاكرة يحرسه قلب" يؤكد فيها عن كيف ولج حداد عالم الصحافة من البوابة الأدبية بمزيج فاتن من برق الشعر ولهب المعرفة كمرآة نقدية، ولا يغفل عن التركيز على مركزية اللغة وجمالياتها المهددة بالهدر، وكيف أولى التجارب الشعرية حقها كنوع من الاحتفاء بالحياة بعيدًا عن صخب المهرجانات الشعرية. 

كما تميزت لغة حداد في ابتعادها عن جفاف التقرير الصحفي العادي عبر توشيح فقرات منجزه بصبغة أدبية حية وطازجة في بورتريهات نابضة بالحياة كثفت رؤيته لشخصيات فكرية وأدبية عايشها وعرفها مكرسًا أبرز ما التقطته بصيرته الثاقبة من مشهدية تبين عمق رؤيته وإحساسه بالشخصية والفكرة التي يكتب عنها ففي: 

"بحثًا عن الشخص في النص" يرسم البورتريه لتنبثق الشخصية كما العطر من الوردة في استعراض أعمال فان كوخ وكيف يعمل بدقة الجواهرجي في درجة عالية من التماهي بين الفنان وموضوعه، وفي كل منها درس مكثف بالجمال والفن وكأنها العطر ذاته موزع في جسوم عديدة، وفي هذا كله بحث حثيث عن الذات. 

وفي "الذهاب إلى الشعر بعنق حرة": مشهد يظهر بساطة وعمق الشخصية إذ يرسم حالة الإرباك التي تعتريه وسط الجمع في أحد الندوات من أجل ربطة عنق فلتت ولم يعرف ربطها من جديد، السوداني صلاح أعطاه درسًا في الشعر والحياة بأن نذهب إلى الشعر بأعناق حرة، فوطن الشاعر هو ذاته وطن الطائر، هو حريته ذاتها، وفي البورتريه الناقد الذي رسمه لنجيب محفوظ "نجيب محفوظ درس السرد الطويل" يؤكد على هيمنة محفوظ على سدنة السرد لفترة طويلة، الأمر الذي حجب أسماء مهمة عن الواجهة - في ظاهرة عبادة الفرد إذ حولوه إلى قانون ثبات بعد أن كان بوابة انطلاق فالأسلوب الرمز قد يصبح عائقاً أمام تجربته ذاتها فما بالك بالتجارب الأخرى، فرائد أي فن لا يصبح كذلك إلا عندما يتيح لنفسه أفقًا مغايرًا ومغامرًا بفكرة قبوله أو رفضه؛ نجاحه أم فشله؛ حتى يتثبت ما يصبو إليه ولو بعد حين. 

أما في بورتريه "ابراهيم بن محمد الخليفة هيبة الشخص وبلاغة النص": في رسم حدود التحديث الشعري عنده، ففي الفن والأدب ما من قراءة قطعيَّة أو نهائيَّة لأيِّ نصٍّ فكل قراءة هي إحياء جديد للنص، حيث يوضح أن الشاعرية هي شهوة إصلاح الكون في أحد معانيها، لذلك التجربة تختلط بين الأدبي والسياسي لصالح مشروع أحدهما، وهذا ما كان بتجربة الشيخ ابراهيم تجلت في حلمه بالتغيير الاجتماعي أكثر منها في نصه الشعري، إذ إن الإيمان الميثولوجي بأن الشعر ديوان العرب حيث لا تكتمل هيبة الشخص إلا بسطوة النص وقوته، هذا الأمر إذا كان مقبولًا في فترة ما إبان نهوض المجتمع وتشكل حدوده فإنَّه اليوم بات غير مقبول ويشكل إرباكًا للتوصيف الأدبي والشخصي لتجربة الشيخ ابراهيم الأدبية حيث يغلب الهم الإصلاحي العام على فرادة تجربته الشخصية. 

وفي رسم مشهد لـ "بدر شاكر السياب ثلاثون موتًا ومطر واحد ومحتملان"

حيث قراءة المطر بدموع السياب، الشاعر الذي يحضره شعره إلى الحياة كلما جاء المطر في تكثيف العلاقة بالشعر باعتباره مطر الحياة على يباس الأرض لما فيه اختزال الحزن الإنساني في "أتعرفين أي حزن يبعث المطر"

إذ إنَّ الأدب انعكاس للهم العام عبر الإيمان بطاقة المخيلة بوصفها جوهرة المراصد في رصد صوت الأعماق والبحث عند السياب ذلك الصوت الخفي الذي لم نجده في الكتابات السائدة في سبر الروح واستكناه الجمال وتحرير الجسد، حيث الشعر هو ما يصدر عن الذات للعالم، هو روح الفرد الخالصة التي تبث للخارج همومها وأحلامها ونوازعها، لندرك كم كان السياب وحيدًا وحتى نعرف أنّنا لسنا وحدنا في هذه الوحدة. 

في تبصر عميق لتجربة "المتنبي يشحذ الحجر الكريم على كبد مفدوح" يتحدث قاسم حداد عن فجاجة الأنموذج المدرسي في التلقي لشعر المتنبي الذي لا يرى إلا المدائح من دون التعمق في رؤيته الوجودية، النظرة القاصرة عن اختراق نصه والتي تجرد النص من الشخصية الإنسانية المحتدمة للشاعر تلك التي تختفي تحت المدح وتمنع من رؤية معاني الطبقات في شعره إذ أن نظرة متقصية في شعره تؤكد انه لم يكن يمدح إلا ذاته العليا: 

"واقفًا تحت أخمصي قدر نفسي  

واقفًا تحت أخمصي الأنام" 

إذ تجلى إبداعه في قدرته على صقل لغته الشعرية والسبر والتأمل فضلا عن جسارة شهواته البشريَّة. 

في بورتريه "أمجد ناصر يكتب كمن يصقل المرايا" يوضح أن امتلاك الشاعر ناصية اللغة يسرجها حيث يشاء له الهوى هي الحلقة المركزية الأولى في روح الشعرية الخالصة وخاصة في تمثله لجماليات اللغة العربية وفتنتها وروحها مبتعدًا عن الحياد ففي هذه النقطة أن تعشق اللغة التي تكتب بها هي حجر الزاوية التي جعلته يتلمس روح الشاعرية عند أمجد ناصر التي تؤكد خصوصيته وفرادة تجربته.

وقد بيَّن في كشف الطاقة الشعريَّة في قصيدة أمل دنقل ما تخفيه البساطة البنائية من تركيب إيحائي وعلاقات جمالية بعيدة عن المبالغات اللغوية والشعارات السياسية الزاعقة، هو الذي بقي حرًا رغم هشاشة روحه وضعف جسده بينما بقي محمود درويش يجسد صراعًا غير معلن بين السياسي والثقافي لينتصر الجوهر الشعري للحلم الإنساني لديه، واستطاع أن يقول قوله من دون أن ينصاع لرغبة جمهوره وأن ينأى عن أوهام الجماهيرية التي تفرض عليه أن يكون صوتا للسياسة فقط. 

أما لوحة سليم بركات فأجنحته الكثيرة تجعله سربًا وحده، أجنحة الحروف والكلمات والجمل والصور والتعابير، الغموض المستعصي على التأويل، ينسج لغته مثل ناسك في محراب مبرزًا خصوصية نادرة وفريدة فهو لا يقلّد أحدًا وليس باستطاعة أحد تقليده بلا فضيحة، وبورتريه "حسين مروة لم تزل الغابة والوحش لا يفهم" حيث القتل بمواجهة العقل، ومازالوا في زماننا يستصرخون النقل، ما الذي يحصن الكاتب الحر من القتل، لمن يعجز عن مواجهة المنطق بالمنطق والحجة والبرهان بحجة وبرهان ليتوهج الشهيد بالذاكرة، ذاكرة حضوره بالقلب والوجدان. 

كما نقل إحساسه بالحزن الجارح في تجربة محمد الماغوط "الماغوط لست محسودا على الموت ولسنا على الحياة"، كما وضح الحضور العميق لصلاح عبد الصبور في لا وعي التجربة الشعرية المصرية، ويعرج على نزار قباني الذي تلقى منه درسه الأول في الشعر مستحضرًا قول أحدهم "ليس الحكمة التأمل في الموت وإنما الأمل في الحياة"؛ لذا كان الاحتفاء بالتجارب الحية النابضة، ومن أدونيس أخذ درس الشعر الدائم الذي يرفرف على جناحي الحرية والجمال في العلاقة الملتبسة بين الجذور والأجنحة، إذ يختزل في عنوان كل فقرة مفهوما شاملا ومعبرا. 

ورغم انحيازه لصوت الحياة فهو لا ينسى الوقوف بخشوع عند مشهدية الموت لأصدقاء الروح وأصدقاء الفكر من كانوا آباء ومعلمين، ومن عانوا من ثقل الحياة وهمومها وأوجاعها كلوحة انتحار يسنين وماياكوفسكي وخليل حاوي، لذا كان من الصعب أن ندرج في مقالة جميع الأسماء التي رسم لها البورتريه المميز الذي لن يغنينا عن قراءته عمله كاملًا.

أسماء وأسماء وقف عندها: بلند الحيدري؛ غازي القصيبي؛ غادة كنفاني؛ هشام الشهابي؛ حسين مروة؛ سعد الله ونوس؛ محمد الماجد؛ علي الشرقاوي؛ أحمد الشملان؛ ابراهيم بوسعد؛ ليلى فخرو؛ صالح العزاز؛ اسماعيل فهد اسماعيل؛ فاطمة المرنيسي؛ ناجي العلي؛ نازك الملائكة؛ سعدي يوسف وآخرون عبروا ذاكرة قاسم حداد وثق حضورهم عبر التكثيف الذي يرصده في كل لوحة يرسمها لأسماء حفرت في الوجدان الجمعي للمنطقة العربية، أسماء هي جوهرة المراصد التي شعت ببريقها.