الوعي القصدي في الأدب

ثقافة 2023/01/21
...

  وجدان عبد العزيز


لا بدَّ لنا من وضع للوعي تعريف عام، ومن ثم وضع للقصدية تعريف آخر لنصل بين الوعي والقصدية، وكي تتولد لنا قناعة معينة بالعلاقة بين الاثنين، نقول إنَّ الوعي تعبير عن مدى إدراك الإنسان للأشياء والعلم بها، بحيث يكون في تماس مباشر مع كل الأحداث التي تدور حوله، من خلال حواسّه الخمس، أي أنّه يمثل علاقة الكيان الشخصي والعقلي بمحيطه وبيئته، ويضمّ مجموعة الأفكار، والمعلومات، والحقائق، والأرقام، والآراء، ووجهات النظر، والمصطلحات، والمفاهيم ذات العلاقة بكل ما هو ماديّ وكذلك معنويّ، بينما تعريف القصدية والتي تعني اتجاه الذهن نحو موضوع معين، ويسمى إدراك الذهن للموضوع مباشرة (القصد الأول)، بينما يسمى تفكيره في هذا الإدراك بـ (القصد الثاني)، واستعمل هذا المصطلح الفيلسوف هوسرل، وكان المراد منه تركيز الوعي على بعض الظواهر النفسية من إحساس وتخيل وتذكر، والقصدية هي العلاقة النشيطة التي تربط الفكر بموضوع ما، ومن هنا فإن الوعي القصدي يعني وعي حقيقي، أي غير قابل للقفز من فوق آليات السياق الادراكي الذي يبدأ بالحواس ولا ينتهي بالدماغ والجملة العصبية.. وهناك وعي نوعي، بمعنى مرتبط بالتجربة، أي تجريبي.. وقد يكون وعي ناتج عن عمليات بيولوجية – عصبونية داخل الدماغ ومنظومة الجهاز العصبي.. أو هو وعي عن تجربة قصدية نوعية تدور في مجال الادراك، أو قد تكون الغاية من هذا الوعي هو إشباع الرغبة في تحريك القصد نحو تحقيق غاية محددة يتوجب بلوغها.. والوعي القصدي وعي هادف يتحدد بالذهن سلفا.

لذا نجد سعي هوسرل إلى اكتشاف طبيعة الارتباط بين اللغة والعقل فهما يتوجّهان إلى إدراك الأشياء معا، فيتمّثل العقل الشيء ويقصده بالتزامن مع استحضار لغة التعبير فيه، تزامنا يكاد يكون آنيا، والقصدية في الشعر الحديث تعني الموضوعية في أحكامها على نص لغوي.. إذن هي محل اشتراك بين النص ومبدعه ومتلقيه في مجالاتها الأدبية، ففي اللغة نجد أن عناصر هذا الموضوع تتعلق بمنشأ الحرف والتعاقبات الصوتية وما تنتجه من ألفاظ وفق تسلسل معين وعلاقة الدلالة بالمدلول.. الخ، وهنا لاتوجد عصمة للنص، فالتطابق بين "الدلالة والمدلول" وهو جوهر "القصد" في اللفظ بكل ما ينتج عنه من قواعد تضبط فهم اللفظ، ومن ثمَّ العبارة وانطباق مفهوم "النظام" القصدي على النصوص لا يمكن أن يطبق بحذافيره إلا على نص معصوم لانتفاء الذاتية مطلقاً في كل الموضوع.. إذن يمكن للآليَّة القصدية أن تعمل في هذه النصوص بكل هدوء وذلك لاكتشاف الحكم الموضوعي في أي نص معصوم، حيث أن أحد طرفي المعادلة ثابت، وهو انتفاء الذاتية في النص وقصدية النظام الواحد في مجمل النصوص المعصومة الشريفة، فليس على الباحث القصدي إلا التأكد من نفي ذاتيته في اكتشاف الحكم الموضوعي في القضية التي يتناولها النص.. والظاهر ان القصدية لم يغفل عنها نقادنا القدمى، ولذا قال الجرجاني عنها: (ومعنى "القَصدِ إِلى معاني الكَلِم"، أنْ تُعْلِمَ السامِعَ بها شيئًا لا يَعْلَمُه. ومعلومٌ أنَّكَ، أيها المتكلمُ، لستَ تقصدُ أن تُعلمَ السامع الكَلِم المفردةِ التي تكلُمُه بها، فلا تقولُ: "خرجَ زيدٌ"، لِتُعْلِمَه معنى "خرَج" في اللغةَ، ومعنى "زيدٌ". كيفَ؟ ومُحالٌ أن تُكَلِّمَه بألفاظٍ لا يعرفُ هو معانيها كما تعرف. ولهذا لم يكنْ الفِعْلُ وحدَهُ مِن دون الاسم، ولا الاسمُ وحدَه من دون اسمٍ آخَرَ أو فعلٍ، كلامًا. وكنتَ لو قلتَ: "خرَج"، ولم تأتِ باسمٍ، ولا قدَّرْتَ فيه ضميرَ الشيء، أو قلْتَ: "زيد"، ولم تَأْتِ بفعلٍ ولا اسْمٍ آخَرَ ولم تُضْمِرْهُ في نفسك، كان ذلك وصوتًا تصوته سواء، فاعرفه"). 

ونؤكد أن الآراء الحديثة بالقصدية تعددت كثيراً، رغم أن المعنى واحد في الوصول إلى الغاية المرجوة منها، ففي الغرب ظهرت الكثير من المدارس وكل مدرسة لها منحى فلسفي معين، ولكن ما يهمنا في موضوعنا هو رأي هوسرل حيث قال عنها في المجال الأدبي بما يلي: (إذ إن النص يوجد كموضوع انطولوجي في وعي المؤلف. ويتكون هذا الموضوع من خلال الخبرة الحياتية المباشرة للمؤلف والصورة التي تتشكل في ذهنه عن الواقع وطبيعته ودلالاته المتعددة. ويتوجه المؤلف وبصورة قصدية نحو إعطاء شكل لذلك الموضوع الانطولوجي من خلال اللغة والشكل الفني للعمل الأدبي. وبذلك يكون العمل الأدبي هو تجسيد جمالي لصورة الحياة في وعي المؤلف وتكون القصدية هي الوحدة الموضوعية التي تضفي الانسجام والترابط على أجزائه. فالمعنى لا ينبثق من محصلة شبكات العلاقات التركيبية والدلالية للنص، بل يكون وجودا ناجزا ومتعاليا على الوحدات النصيَّة، مكانه هو وعي المؤلف وعلته هي قصدية ذلك المؤلف).