أمراض الأنا الشعريَّة

ثقافة 2023/01/21
...

  علي محمود خضيّر

تكاد أن تكون {أنا الشاعر} النسيجُ الخامُ، شبه الموحّد، لشعرنا اليوم. تسعون بالمئة من الشعر الذي ينشر تحضرُ الأنا في خلاياه وتجري في عروقه. حضورٌ حاكمٌ لعالم القصيدة، صمدي، لا يكاد يترك متنفساً لشيء آخر إلى جواره، 

تجربة أو تواصلا. كأن الذات الكاتبة مركز العالم، بل الكون. وكأن الأشياء، كل الأشياء، تدور في فلكها، وكل نأمة في الوجود مقدرة لها.

الأنا هنا مرآة مباشرة للهواجس، سيرة تسجيليّة للعواطف والصدمات والخيبات والاعتراضات والرغبات.. إلخ. مرافعة سيكولوجية بطلها ياء المتكلم/ة، ولازمة "أنا" المكرورة، أو ما هو في حكمهما. وهي أشبه بـ"العريضة" التي يكتبها المرء على الرصيف، شكايةً، قبل دخوله على مسؤول. شكايةٌ يمكن لها أن تجد قناة أخرى غير الشعر. لكن الشاعر/ة مصر/ة على اقحامها وتسخير القصيدة لها. سمتان أساسيتان تهمينان على تلك الأنا: البطولة والظُلامة. بالطبع هناك سمات أخرى، غير أن هاتين السمتين -وصورهما المقاربة والمتعدّدة- هما الأبرز، وهما من يطيحان بالقصيدة لقاع الابتذال.

في رأيي، إن تلك "الأنا"، حالةٌ مَرَضَيِّة داخل جسد القصيدة. فهي تهيمن على أبعاد المعنى، وتفتقرُ إلى المعالجة الفنيّة، وتضربُ سوراً يقيّد القصيدة بوجهة نظر واحديَّة. وهي، في الغالب، تحوّلُ القصيدة إلى مستعمرة ذاتيّة مغلقة، لا مجال لاشتراك الخبرات الجمعيّة فيها. بل إنها، في ذاتها، غير قادرة على منحك خبرتها الخاصّة لنقص في فهم طبيعة العمل الفنيّ، ولأنّها لا تملك إلّا الإخبار عن الذات، بلا سؤال، أو مداولة، أو حوار مع القارئ. 

على الأنا، داخل القصيدة، أن لا تكتفي بالتعبير عن ذاتها؛ سيّريَّاً أو سيكولوجياً، بل تذهب إلى تقصي المشترك مع الذوات الأخرى. بمعنى تذويب الشخصيّ المؤقّت، فنيَّاً، في العام الخالد، الذي لا يحدّه زمان ومكان، حتى تصير الحالة الفرديَّة قابلة للتمثّل من الآخر لأنَّها مسّت عصباً مشتركاً عنده. عبّرت آني أرنو، ببراعة، عن فكرة مشابهة في مقالة لها، ودعتها بـ "الأنا العابرة للذات"، "خلاصة هذه الأنا العابرة للذات موجودة في [العمل الفني] الذي تختفي منه الأنا تمام الاختفاء". إذن المشترك في التجربة، داخل العمل الفنيّ، هو المنشود وليس التعبير الوجداني المحض. لأنَّ الأخير، ببساطة، غير قادر على صياغة مفهوم جمالي، بقدر ما هو تسجيل صارخ للعواطف والاختلاجات النفسيّة التي قد تسكن تماماً بغياب مسببها. ولأنّها تهبط بالقصيدة إلى مستوى ردة الفعل والخطابيَّة الاستهلاكيَّة.

تسخير القصيدة ساحة تصفية -مع الداخل أو الخارج- يحوّلها منصة شكوى واستعطاف، أو خطاب شموخ واعتداد فارغين. في تناقض ممل ومربك. وذلك كله نفل مضر بجسد (هو الشعر) يراد له الصفو والسمو والعناية بالجوهر، فضلاً عن الجودة الأدبيَّة المُتَجَاوِزة. 

لا بأس في حضور الكاتب داخل نصّه، فهو مالك النص، وخالقه. وهو من ثمَّ الموجّه لمساراته عروجاً وانخفاضاً في أرض المعنى. البأس، كل البأس، في شكل ومضمون هذه الحضور الحاكم المتحكّم بالقصيدة. كانت "ذات" السيَّاب حاضرة بقوة في قصائده. لكنه، وبموهبة فارقة، جعل منها نافذةً تطلُّ على الذوات المطلقة، تحاورها، بل تتمثّلها. ستشعر وأنت تقرأُ شعر السيَّاب بأنَّك يتيم مثله، مطارد ومهدّد في وجودك. ومن شجن ذاته وشجاها ستلمسُ طبيعة جَيْكور ونداوة هوائها ولهف أفقها. وما ينطبقُ على السيَّاب ينطبق على فروغ فرخزاد، مثالاً ثانياً، التي كتبت سيرتها شعراً لكنها تجاوزت، بقوة الفنّ الشعريّ، سطوح العاطفة إلى سطوح "الموضوعية والانفصال والمعلومة". 

في جردة بسيطة وجدتُ أنني كتبتُ، فيما سبق، قصائد كانت الأنا فيها بطلة للمسرح. أيُّ "أنا"؟ الحق إنها كانت صدى الذات اليقينيّة، المنكفئة، الشكّاية. ارتبطت تلك القصائد بالبدايات. وإني لأعجب حين أقارن شأني اليوم بشأن تلك الأيّام عن أسباب كثرة التشكّي والانغلاق تلك، وأحسبها ضربٌ من أوهام يتعلّقها المرء طلباً للبطولة والظلامة. حاولت لاحقاً تجنب تلك المهاوي. وأزعم أن "كتاب باذبين" محاولة في تجسيد الأنا العابرة للذات إلى المشترك في مجموعة من البشر تعيش في حيز محدود. 

 يطغى اليوم شِعرُ الأنا المَرَضَيّة ويسود في الشعر السائد. بالأخص عند المستجدّين ممّن صنعهم فضاء الفيسبوك. وألمسهُ، على نحو أكثر شمولاً وسطوة في شعر المرأة لأسباب لا مجال لها. مفهوم أن مفارقة الذات الحاكمة يتطلّب وقتاً ودربة لعبور السور إلى الفضاء الحرّ. حسرتي على من مضى عمره ولم يدرِ بالسور من الأساس!.