«معركةُ الكرزِ – حواراتٌ مع هانا آرنت» گِنْثَر آنْدِرْس

ثقافة 2023/01/22
...

  ترجمة وتقديم: نورالدين الغطاس

في الرّابع من ديسمبر عام 1975، تحت سماء نيويورك الرماديَّة والماطرة، وقعَ خبرُ وفاة المفكرة والفيلسوفة -التي ترفض لقب فيلسوفة- «هانا آرنت» كالصاعقة على الأوساط الأدبيَّة والفلسفيَّة في كل من أمريكا، وألمانيا، مسقط رأسها. وصل خبرُ وفاتها إلى زوجها الأول الفيلسوف «گنثر آندرس»، كان جالساً في مكتبه، عادت به الذاكرة إلى عام 1925 حيث تعرَّف على هانا آرنت وهي طالبة فلسفة في جامعة مدينة «ماربورغ» الألمانيَّة.

انتقلا بعد ذلك إِلى مدينةِ برلين حيثُ تزوَّجا عام 1929. منذُ البدايةِ كانتْ علاقتُهما مضطربةً، بسببِ حُبِّ هانا آرنت، الطالبة، لأُستاذِها الفيلسوف «مارتن هايدجر» الذي كان يكبرُها بسبعةِ عَشرَة عاماً، والمُؤَيِّدِ للنازيَّةِ الأَلمانيَّة. آرنت وآندرس اضطرّا بعدَها للهجرةِ إِلى باريس هَرباً من النازيَّة عام 1933، على الرُّغم من ذلك، لم تصمُدْ علاقتُهما أَمامَ التحدِّياتِ الداخليَّةِ والخارجيَّةِ، وآلتْ في الأَخيرِ إِلى افتراقِهما عام 1937، في السنةِ نفسِها هاجرَ گِينثر آنْدِرْس إِلى أَمريكا، في الوقتِ الذي بقيتْ فيه هانا آرنت في باريس الفرنسيَّة، لتُهاجرَ بدورِها لاحقاً مع زوجِها الثاني «هاينرش بليشر» إِلى أَمريكا، عام 1941. رغم قِصَرِ عمرِ علاقةِ آندرس وآرنت، إِلّا أَنَّهما كانا يُمثلانِ روحَ عصرِهما، وُلد آندرس عام 1902 وآرنت عام 1906. فقد درسا الفلسفةَ، ثم تبلورتْ مشاريعُهما الفلسفيَّةُ، هانا آرنت المُنظرة السياسيَّة التي عكفتْ على دراسةِ جذورِ العنفِ والشموليَّةِ (التوتاليتارية)، أَمّا آندرس فقد تعمَّقَ في مجالِ الثورةِ الصناعيَّةِ، والذكاءِ الاصطناعي، وخصوصاً تقنياتِ الدَّمارِ الجماعيِّ، حتى أَصبحَ مِنَ المعارضين الأَقوياءِ للقنبلةِ النُّوويَّة. لم يَكُنْ الفيلسوفُ آندرس يؤمنُ بأَنَّ هناكَ علاقةً بينَ الأَشياءِ، بل كلُّ شيءٍ حتى البشر مجرَّدُ فتاتٍ في هذا الفضاءِ، هذا الكونُ اللامتناهي «القمرُ، على سبيلِ المثالِ، لا يعرف شيئًا عن الكرزِ الذي ينمو هنا على الأَرض».  

غالباً ما يكونُ الحُبُّ الأَوَّلُ هو الأَقوى، ولا يفقدُ بريقَه بمرورِ الوقتِ، وبُعدِ المسافاتِ، وغِيابِ اللقاءات. ففي عام 1985، أَي بعدَ عشرِ سنواتٍ من وفاةِ هانا آرنت، عادَ الفيلسوفُ آندرس وقد ناهز الـ 82 عاماً إلى دفاترِه ومدوناتِه التي خطَّها مُحتفظاً بحواراتِه مع حبيبتِه الأُولى هانا آرنت، والتي كان يُسمّيها «إِطلالةٌ مذهلةٌ بعيونٍ خضراءَ»، ليقدِّمَ لنا كتاباً مُحمَّلاً بالحُبِّ والأَلمِ يختصرُ علاقتَهما القصيرةَ، والعميقةَ في الوقتِ نفسه، وكم كان يتمنّى لو بقيتْ هانا آرنت حبيبته إِلى الأَبد. الكتابُ الموسوم بـ «معركةُ الكرزِ – حواراتٌ مع هانا آرنت»، يأْتينا بتلك الحواراتِ من ذاكرةٍ تريدُ تسليطَ الضَّوءِ على السَّنواتِ الأُولى الجميلةِ، حيثُ كانا يجلسانِ وأَمامَهما سلَّةٌ ممتلئةٌ بالكرزِ ويتحدَّثانِ بشؤونِ الفلسفةِ بكلِّ حُريَّة.

 «معركةُ الكرز» هي ذاكرةُ رجلٍ مُمزَّقٍ مِنَ الداخلِ، تخلَّتْ عنه زوجتُه الثالثةُ في السنةِ نفسها التي توفيتْ فيها حبيبتُه الأُولى هانا آرنت، وَجَدَ في الذكرياتِ والرسائلِ ما يُخفِّفُ عنهُ هذِهِ الانتكاسةَ التي لا تُطاق.

اخترتُ حواراً ومقطعاً من الكتابِ وترجمتُه عن الأَلمانيَّة: «كانتْ خشبةُ الحواراتِ – وهذا أَيضاً أَمرٌ تلقائي – الشرفةُ الضيِّقةُ للعقارِ السكنيِّ الصغيرِ في “دريڤتس”، حيث كنّا نعيشُ كمُستأْجِرين فرعيين، لغرفةٍ ومخزنٍ ومطبخٍ صغيرٍ جداً. أكَملتْ “هانا” أُطروحةَ الدكتوراةِ بشكلٍ مستقلٍ تماماً في البحثِ والفكرِ والجماليَّةِ في الأُسلوبِ، على الرُّغم مِن أَنَّها لم تبلغْ سوى 22 أو 23 عامًا. في الوقتِ نفسه كانتْ عميقةً، فضوليَّةً، سعيدةً، متسلِّطةً، مكتئِبةَ، موْلعةً بالرقصِ - أَنا لا أًتحمَّلُ أَيَّ مسؤُوليَّةٍ عَنِ التناقضاتِ الظاهرةِ - هذا ما كانتْ عليه.

في الشرفةِ الصغيرةِ جلسَ كلٌّ منّا قُبالةَ الآخرِ، تتوسَّطُنا سلَّةُ كرزٍ ضخمةٍ، على اليسارِ واليمينِ أَوعيةُ مربّى فارغةٌ، بينما كنّا ننزعُ نوى الثمارِ الدّاكنةِ المُمتلئَةِ للحفاظِ عليها وطهوِها لاحقاً - وجدتْ “هانا” في الطهوِ بشكلٍ عام، متعةً رهيبةً، كالتي وَجَدَتَها في الفلسفة. كنّا نضعُ النّوى في وعاءٍ، والثمارَ في وعاءٍ آخرَ، أَو بالأَحرى في أَفواهِنا - وهذا ما ينطبقُ عليها بشكل

خاص: 

تُدمنُ “هانا” على الكرزِ بمُجرَّدِ حُلولِ موسمِهِ، تماماً مثلَ إِدمانِها على السجائر. في الواقع، كانت تبتلعُ بسرعةٍ مُذهلةٍ، من أَجلِ استهلاكِ كميَّةٍ كبيرةٍ منه، حتى أَنَّها ابتلعتْ تقريباً العديدَ من الحبَاتِ بنواتِها، وأَحيانًا بالساقِ، في أَجواءِ هذِهِ المعركةِ من المرحِ الطفوليِّ أَحبَّتْ تعليقَ توأَمِ كرزٍ في أُذنيها - الشيءُ الذي بدا جميلاً جدًا بين تموُّجِ شعرِها الكستنائيِّ الداكن. كما يمكنُها أَن تكونَ أَيضًا صاخبةً ومُفعمةً بالحيويَّةِ - وكلُّ ذلك في تتابعٍ قصيرٍ جدًا. كانتْ أَفواهُنا وأَيدينا ملطَّخةً باللَّونِ الأَحمرِ القاني - وهذا لم يزعجْنا، لأَنَّنا لم نعتبرْ دمَ الكرزِ نجسًا؛ وهذا أَيضًا لم يمنعْنا من متابعةِ أَنشطتَنا اليوميَّةَ والمفضلةَ، التي نادرًا ما تنقطعُ، بالطريقةِ الأَكثر كثافةً، أَلا وهي الجدالُ والفلسفة.

- عندما تتكلمينَ، يتناثرُ شعرُكِ ويتشكّل بأَجملِ مظهرٍ

- كيف أَتكلَّم؟

- كأنَّكِ تعتبريننا والقمرَ وسمكَ الفلاوندر وهذه الحبّاتِ من الكرزِ سواسية... - سواسيةً في القيمة. 

- ما الأَمر الذي يبرهنُ لكِ أَنَّنا أَكثرُ قيمةً؟ أَنَّ هناك «تَسَلْسُلاً هرميّاً للقِيَمِ» حسبَ تقييمِ ماكس شيلر (*)

(لا جواب)

- ولو افترضنا وجوده، أسيكون الإنسان قمّة الهرم؟

(لا جواب)

- ما جَدوى وجودِ الملايين من الكائناتِ، إِنْ لم تكنْ لها قيمةٌ؟ ربَّما لا شيءَ!

- أَعرفُ جيِّداً هذا السؤال

- هل الّذين هم أَقلُّ قيمةً، ربَّما مجرَّد تمارينَ خرقاءَ لعملِ الله؟ معصيات الشباب؟

لم تُجِبْ على كلِّ هذه الأَسئلةِ المُخلَّةِ بالأَخلاقِ والآدابِ، بل نعتتْها بالتَّجديفِ والازدراء.

... 

ومع ذلك، إِذا كنتُ أَتذكرُ بشكلٍ صحيحٍ، فهي لم تَلُمْني أَبدًا على «التجديف» اليومي. كانتْ تحبُّ الضحكَ للغاية. على أَيَّةِ حالٍ، لم تُجِب.»

أَجدُ كتابَ «معركةُ الكرزِ – حواراتٌ مع هانا آرنت» من أَغربِ الكتبِ عن الفيلسوفةِ هانا آرنت، بلْ هو كتابٌ عن الفيلسوفِ وعالمِ الاجتماعِ گِنثر آنْدِرْس، الَّذي اشتغلَ على المسافةِ بين الإِنسانِ والعالمِ في العلاقةِ «إِنسانٌ دونَ عالم» أَم «عالمٌ دونَ إِنسان»، ليصلَ إِلى جدليَّة التقدُّمِ، الإِنسانُ والتكنولوجيا «لا يعتقدُ المرءُ أَنَّ هناكَ نهايةً، ولا يرى أَيَّةَ نهاية - لقد جَعَلَنا مفهومُ التقدمِ عُمْياً أَمامَ نهايةِ العالم.» 

لقد عايشَ آندرس الحربَينِ العالميَّتينِ، الأُولى والثانيةَ، شهدَ الهجرةَ، وهيروشيما، وحرب الفيتنام، وتشرنوبل، ممّا جعلَه يقولُ عن نفسِهِ أَن ليس لديهِ سيرةٌ ذاتيَّةٌ على الإِطلاق - فتراتٌ متقطِّعةٌ لا غير، ومراحلُ حياةٍ مرتبطةٍ بشكلٍ أَو بآخرَ، من بينِ هذه المراحلِ علاقةُ زواجِه من الفيلسوفةِ هانا آرنت، من عام 1929 إلى غاية عام 1937، والتي كانتْ عبارةً عن علاقةِ انجذابٍ وتنافرٍ، حُبٍّ، وبُعدٍ، تفكيرٍ وعملٍ، وكِلاهُما يُعدُّ من روّادِ الفِكرِ المُعاصر. 

 / نورالدين الغطاس

(*) ماكس شيلر (1874 - 1928): فيلسوفٌ وعالِمُ اجتماعٍ أَلماني.