رواية «فقط أنت»

ثقافة 2023/01/23
...

 أ. د.عقيل مهدي يوسف

«الحزن، صنو للوحدة، إذ لوعة الحب، الوحدة- اكتافيوباث».

في رواية (فقط أنت) يستهل المؤلف صادق الجمل سرديته بجملة: «ذات خريف صامت، كربوةٍ في قمة جبل»، ليمهد إلى رسم صورة الشخصية الرئيسة، (العجوز خضير)، وهو يستذكر أيام صباه وشبابه، وكيف اعتلى خشبة المسرح في مدرسته، ليغني لجمهور الطلبة.

ومنذ ذاك الزمن بقيَ حتى الآن مغرماً بالعزف الموسيقي وحدث أن اقتحمت خلوته امرأة وهي تعزف على (آلة الجلو) وحين يقارن بين عمريهما يقول لها: ألا تخافين.. حتما سيقولون إنّك حفيدتي! لترد عليه أنت شيخ الشباب! وهي بذلك تثني عليه بخلاف زوجته التي تنفر من أغانيه صبحاً ومساء.. وفي لحظة (ايروتيكية) تتذكر العازفة حديث أختها عن زوجها وهي تزور قبره، حاملة باقة ورد أبيض، لتصفه بأنّه (كان خجولاً رقيقا ثم توحش، غرس منجله حين ذاق جمار نخلتي).

عرف بطل الرواية (خضير) بكتابة مقالات سياسية واجتماعية جريئة بلقاءاته التلفزيونية الملتزمة بقيم وطنية مصيرية، وعلى مثل هذا التمهيد تدخل الدكتورة حياة المهندسة، لتخطف الأحداث باتجاه مسار آخر وهي تتذكر زوجها المتوفي (حميد) التي باتت مختلطة في ذهنها مع صورة (خضير) - ومع حكاية اختها (امنة) التي خدرها زوجها في ليلة عرسها مدعياً (التدين والورع، ويغتصبها ويسكب قطرات ويسكي في صرتها ويشرب). 

لا تخفي الدكتورة حياة، إعجابها بمقالة خضير التي جاء بها: (الحياة رغم شقائها يبقى فيها الحلم والأمل) وهنا يبدأ دبيب التعلق بها، إذ بقي خضير يترقب عودتها كل يوم وتوالت بينهما اللقاءات ليستشهد خضير بقول شاعر: (عيونكِ باحت فلا تنكري - فمهما سترتي فلن تقدري). وبادر ليكتب لزوجته (عندي اجتماع، سأتأخر لا تقلقي). أما الدكتورة فقد مر بخاطرها زوجها المرحوم كابوساً مخيفاً. ويسرد لنا الروائي عن استشهاد الإمام الحسين وعن الحرب الحاضرة، ثم يرن التليفون على الحاج سالم: عمي ابنك عباس بمستشفى البصرة. وهو يردد يارب لا تفجع أمي بي. هكذا تحدثت الدكتورة حياة عن موت أخيها عباس وقد لحقته أمها بموتها وأبيها بأشهر معدودات. أما أختها آمنة التي تزوجت ابن عمتها (رجل دين)، لكنه في حقيقته ماجن سكير، ينام في الشوارع. الروائي صادق الجمل يبحث عن كيفية تكريس مبادئ سامية وقيم عليا لشخوصه بسردية مرنة تتقبل تغيير المسارات وتعديل المواقف والسلوك نحو الأفضل بحجاج منطقي ينعكس على ترتيب عناصر العلاقات ما بين شخصيات الرواية. وهنا يدور حدث لصراع من نمط جديد ما بين البطل وأسرته وبالأخص مع زوجته وبيئة مقابلة تخص الدكتورة الحبيبة. وهنا يقيم الروائي معادلاً موضوعياً يمهّد بوسيلة تخرجه من مكابداته بما يسرده من بنية حواريَّة ووصفيَّة لكل شخصية على انفراد بجماليَّة لغة مثيرة بانتقاء الألفاظ وتبيان المقاصد أو في ما يخص رؤية القاص التخيليَّة وموضوعاتها المشوقة. كل ذلك يثير القارئ ويشهده لمتابعتها وصولاً إلى حلول لمشكلاتها شبه المستعصية وتحسباتها مع المجهول ليبين الفرق ما بين الإنسان الفطن والآخر الجاهل. وهذا يذكرنا بمقولة (ارسطو): «أتعب الناس من بعدت همته واتسعت معرفته وضاقت مقدرته». البطل خضير يعيش محنته مع زوجة ترميه بعيوبها بصلافة لا تعرف الخجل وهي تصرخ بقبح أقوالها أمام الأبناء وهو من طرفه يتحوطهم بالمحبة والرأفة والحنان ويصفح عن زلل زوجته بسماحته المعهودة كلما اشتدت أزمته البيتية هذه. منزوياً بوحدته المدمرة وكآبته المحمومة متطلعا للخلاص من احباطه وكأنه (يتطابق) مع توصيف (المتنبي): «فؤادٌ ما تسليه المدام.. وعمرٌ مثل ما تهب اللئام». أو ما توجزه عبارة (ادورنو) عن عفة الإنسان بقوله: «إن الإنسان الخالي من الخبث لا ينعم بحياة هانئة». فالبطل خضير يكتب مقالة يكشف فيها كيفية تحول الإنسان من اليسار النقي الجميل إلى اليمين الوسخ القذر، كذلك يوصف (الأنظمة الشمولية) بأنها «تقمع الفن والأدب والحب» وتثير الحروب التي «اجهضت آمالنا وأرحامنا»، ويذكرنا أيضاً بمقولة (الحجاج بن يوسف الثقفي): «ما بكم إلا الصلف والشغف وملق الاماء»، أي: العناد والتكبر وتملق الجواري لأسيادهن. ثم يتابع سرديات البطل الذي يرى في يومنا هذا تواري الشرفاء الأحرار لتعود النعرات الطائفية والشوفينية ليتملقوا السادة الجدد. هكذا يبقى خضير ما بين تجاذبات أحلامه الليلية المتمناة وبين صحوته النهارية المعاشة بكوابيسها، لكنما ما يخفف من وطأتها حين تعمقت علاقته مع الدكتورة حياة، بعد أن عقد زواجاً (سرياً) معها ليتابع (الروائي) تفصيلات (ايروتيكية). مما اقتضى تكييف لغة هذين البطلين ليعيد تركيبها حسب تقلبات أحوال الشخصية في مواقف قوتها وانهيارها او باستيهاماتها الغرائزيَّة وهما منذهلان عن الفضاء الخارجي في هوس شبقي مستثار. 

للرواية - حسب جان ريكاردو - علاقة وثيقة بالتخيل: «فهي تخييل قصة وقصة تخييل في آن واحد»، لقد باتت كلمة (الحب) بطابع (بورنوغرافي) تمتد معانيه مجازياً بإنشاء استعارات لغوية مركبة الدلالة يتبادل بها البطل خضير والبطلة حياة أحاسيس غرائزيَّة في عزلتيهما الخاصة. تميزت الرواية أسلوبيا باتجاهها الواقعي في ما يخص أبعاد الشخصيات والحبكة والمضمون ببعده الاجتماعي وبتقنيات وصفية غير شكلانية بدءاً من عنوان الرواية: (فقط أنت) الذي يختزل موضوع الرواية تداولياً مع القارئ، بلغة تمتزج فيها أحيانا (الفصحى باللهجة العامية) وتحتشد فيها الذاكرة بأسماء تخص أعلاما قدامى ومحدثين من (عرب) و (أجانب) وجمع الروائي في نسق واحد بين الواقعي والمتخيل بتبئير داخلي لكل شخصية على انفراد ببوحها الذاتي وعلاقتها مع الآخر.

لكن سرعان ما يباغته ثلة من خلصائه ليختطفوه من مقهى (الأسطورة)، فيبدو أن الخاطفين قد باغتوه من (مكمن الحذر) لأنهم من أقرب المقربين اليه؛ من المرتزقة الفاسدين، حتى أن أحدهم، كما يصفهم (الراوي) أن صوته كصوت أشبه (بنقار الخشب) لأنه يموه (صوته) مع مجموعة تفتعل (الخرس) حتى لا يتعرف عليهم (خضير).

تختتم الرواية بتوديع (الدكتورة حياة) لولدها (جعفر) الذي يؤثر الغربة على (البقاء) في (الوطن) والأم المصابة بالسرطان تكتب في مذكراتها (إني تزوجت من شخص موقر، احترمني وقدر مكانتي وأعاد لي الأمل؛ دمتم أولادي في رعاية الله). وقد خط على غلاف الرواية.. “تعال نشذب بتلات الورد ونزيح الشوك”.