الألوهة.. صفة الملوكيَّة في الشرق

ثقافة 2023/01/24
...

  ناجح المعموري

 إن نماذج النصوص المكتوبة عن ملوك هم (شوسين وأدن دكان وشولكي) وعن الملك/ الإله – الشاب دموزي. هي نصوص مكتوبة عن عقائد الخصوبة وطقوس الجنس المقدس عند السومريين والتي كانت تقام ويمارسها الإله والآلهة أو الملك والكاهنة، وهذه الثنائيَّة تمثل اتصالا جسديَّاً وروحيَّاً ودينيَّاً، من أجل فعل الخصوبة في الحياة،   والتوازي واضح وكبير جداً بين نشيد الانشاد وهذه النصوص والتي بلورت موقفاً نقدياً واضحاً عن التناص الموجود بينهما. كما يؤكد السطو اليهودي على التراث العراقي القديم واستثماره في صياغة متأخرة نشيد/ الانشاد في بابل. حيث استقر نصاً احتفالياً يقدمه اليهود خلال احتفالاتهم وطقوسهم التي كانت تقام آنذاك، وواضح التأثير المباشر للمكان الذي كانت تقام فيه طقوس الجنس المقدس وتجليها في النص التوراتي.

 وبالإمكان الاهتداء إلى التأثير العراقي في البنية الداخلية للنص، حيث كتب الانشاد بطريقة تمثيليّة/ أدائيّة متناظراً مع كثير من النصوص الأدبية العراقية القديمة التي كانت تقدم في الاعياد والمناسبات الدينية والنماذج كثيرة. ولعل أكثرها حضوراً هو نص رثاء أور الذي اتخذ شكلاً ادائياً واضحاً وكذلك النصوص الصراعية الخاصة بتداخل المرحلتين الحضاريتين، الرعوية/ والزراعية وأهم تلك النصوص، الصيف والشتاء/ الراعي والفلاح، مضافاً لها ايضاً نصوص الغزل بين انانا/ عشتار ودموزي.

 وينفرد سفر نشيد الانشاد بإطاره الفني وظهر غريباً وسط أسفار الكتاب المقدس، وكأنّه نص تمثيلي تتوزع أدواره بين عدد من الشخوص. كما أنَّ النشيد يُضيء لنا حيوية الطقس الديني الذي يقدم فيه هذا النص، حيوية متأتية من المشاركة الجمعية والتبادل الشعائري من أجل أن تتحقق أعلى درجات التبادل الروحي بين المحتفلين، وخصوصاً إذا عرفنا بأنّهم أبعدوا عن مكانهم الأول وانتقلوا إلى مكان آخر – بابل، فالصلة مع المكان الجديد، لن تكون بمثل علاقتهم مع المكان الأول الذي صاغ ذاكرتهم وبلور تاريخاً فردياً وجمعياً.

ولقد عرف اليهود الرقص والفنون المصاحبة له كالموسيقى والغناء، وأجد لهذا بصمات واضحة في نشيد الانشاد فيكون مصاحباً بالرقص والشعائر الأخرى المكرسة للطقس الديني. وعلاقة اليهود بالرقص معروفة. كذلك الموسيقى ومنذ كان داود فتياً، ولولا معرفته العزف على القيثارة لما استطاع الوصول إلى بلاط الملك شاوول، ليهدأ روع الملك لحظتما تعتريه نوبة الغضب والجنون. ولاهمية داود في التاريخ الديني والبطولة المسروقة احتل مكانة كبيرة في الذاكرة التاريخيّة اليهوديّة.

 ولهذا حظي ابنه سليمان بعفو الإله اليهودي/ اليهوي لمرات عديدة لأنّه - سليمان - سمح لعبادة الإلهة المجاورة بالتكرس في مملكته. 

وأعتقد بأنّ أهمية الملك سليمان متأتية من انفتاحه على الديانات المجاورة وسماحه بدخول العناصر الأساسية للثقافة الضاغطة عليهم. 

وتمثل استجابة سليمان للمعبودات العديدة وعياً لضرورة تصعيد الصراع بين تلك الإلهة والإله الدموي يهوه، هذا الإله الذي لم يستطع الصمود ومقاومة الآلهة الأخرى. والتي استعانت بتراثها المهيمن داخل كنعان. قد أوشك الإله اليهوي على الانهيار ولعل نشيد الانشاد أكثر النصوص الدالة على الخلخلة القوية التي أصابت ديانته لأنّه - نشيد الانشاد- تجسيد وتكريس لطقوس الزواج المقدس التي لم تستطع الديانة اليهودية التخلص منها ابداً.

 وكان الملك سليمان امتداداً وراثياً وروحياً للملك داود. وحظي سليمان بمكانة مهمة ميزته عن غيره كعاشق للنساء، ومحاط بجيش منهن، لأن طقوس الزواج المقدس تفترض وجود ملك ممثل للاله وكاهنة تستعير دور الالهة عشتار.

أعتقد بأن اليهود وباكمالهم صياغة نشيد الانشاد وقد عبروا عن محبتهم وارتباطهم بالتاريخ اليهودي ونظامهم السياسي الذي ساد فترة طويلة وانهار باجتياح نبو خذ نصر لهم، ويتبدى هذا الولاء عبر استعادتهم للحظة الملك داود ووريثه الملك سليمان الذي رسخ طقوس والده في الرقص والفعاليات الشعائرية التي مارسوها في الداخل والخارج. 

وأرى بأن وجود الملك لقباً وصفة سياسية ودينية في الاناشيد، يمثل تجسيداً لاهتمام اليهود الجديد والذي نشأ في بابل بعد السبي، وخصوصاً في المراحل التي شهدت تدوين التوراة والتلمود البابلي. ولأنهم عرفوا حرية كاملة في بابل، فإنهم استعادوا عقائدهم الدينية والسياسية، وصاغوا الاناشيد باستفادة من أغاني أنانا/ عشتار ودموزي ونصوص الزواج المقدس. وتجسد الذكاء اليهودي واضحاً في استعادتهم للاصول الدينية والينابع السياسية، مع استثمار لنصوص عراقية قديمة/ كثيرة وترحيل واستعادة منظومات رمزية يهودية ويهوية في بابل. 

كما أن تأكيدهم على الملك يعني حنيناً سياسياً لمرحلة حضارية متطورة ومتقدمة من حياتهم المستقرة، كما أنهم وارتباطاً مع فكرهم السياسي/ الديني/ التلمودي، لا يرون في الحاكم أو المسؤول إلا ملكاً، ولا يرون في الشخص المتمتع بدور بارز في فعالية احتفالية إلا شخصاً يؤدي دور الملك، إلا أنه مرتبط بالبنية الذهنية اليهودية، من خلال تجسداته الحياتية. 

ومن ثم، صار الملك – كمفردة – تمثيلاً لنسق ووحدة سياسية ودينية، مثلما يدل – أيضاً – على الفرادة في الحياة وفي كل شيء. 

لذا نجد وإلى الآن في منطقة فلسطين وسوريا والاردن والعراق، بان مفردة ملك، تعني الحبيب والشريف والإنسان النموذج، النقي الذي لا مثيل له، وأعتقد بأن لذلك سبباً ارتبط مع البنية الذهنية/ الأسطورية في العراق القديم. 

البنية التي انتجت هذه الصفة وجعلت منها جوهراً، ممثلاً لما هو مقدس وغير دنيوي، حيث حاز الملوك في العراق صفة الألوهة، لأنَّ التداخل بين الصفتين كان موجوداً منذ البداية، الالهة/ والملوكية ومن ثمَّ هبطت الملوكيَّة على الأرض وجاءت بعدد غير قليل من الصفات الإلهيَّة.

وانتقال صفة الملك للحاكم، تحقق للتماثل مع الالهة وحيازة لصفات دينية/ قدسية، كما أنّها توحي بالفرادة عن غيره من البشر، وحصوله على صفات مقدسة، كلها تسهم بتكريس وترسيخ السياسي/ الاجتماعي/ الديني في المؤسسة الحاكمة.

ولقب الملك في النصوص الأدبية قديم ولم يكن حديثاً، وقد عرفه العراق القديم في نصوصه الاسطورية السومرية وهذا ما تكشف عنه الاسطورة السومرية المعروفة [انكي وتنخرساك] ويعني بان العراق أسبق الشعوب في منح هذا اللقب للاله وخصوصاً الالهة الرئيسة، أو ذات المركز الديني الحساس جداً، وأيضاً للالهة الحائزة على قدرة التخليق وحدها أو بالاستعانة بالالوهة المؤنثة كي تصير وسيطاً من أجل  ذلك، وأعتقد بأن منح لقب الملك للاله، صعد من العراق إلى الحضارات الأخرى في الشرق، لأنَّ حيازة الصفة الدينيَّة لا بدَّ وأن ترافقها أو تلازمها الصفة السياسية، ولأن هذه الصفة تمثل تشكلاً اجتماعياً وسياسياً جديداً، له علاقة بطبيعة النظام والعلاقات السائدة بين الطبقات وهو يشف أيضاً عن صعود طبقة جديدة، ذات عناصر بطرياركية جديدة، لها وظائف، لم تكن موجودة من قبل.  وظائف استجدت بتحقق نظام المدن ونشوء دويلات فيها، أي أن هذا اللقب مقترن كذلك مع المدينة والعلاقات الناشئة فيها، ولهذا استمر هذا اللقب الملك بتبلوره واتضاحه أكثر، واقترن بالدور الديني القيادي، وأعني به سلطة الالهة ومن ثم الانبياء حيث نجد داود ملكاً وسليمان ملكاً فضلاً عن خصائصهما الدينية المعروفة ولايمكن النظر لواحد منها بمعزل عن الآخر. ومن خلال هذه الثنائية، تبدو الشخصية أكثر تطوراً واكتمالاً، لأنها حازت على الصفة السياسية التي تنشط من خلال الصفة الأولى، النبي أو الكاهن.  وأعتقد بأن الجمع بين الصفتين له سبب آخر غير السياسي لأن الالهة في العراق القديم، لم تكن متبدية حتى تحوز على تلك الصفة، حتى تستكمل دورها الديني ومجالها السياسي والاجتماعي، وإنما هي إلهة فقط وغير مشخصة، مكتفية بصفاتها وصفة الملك دينية في الأساس. 

وعندما تحقق النظام السياسي الجديد تداخلت هذه الصفة مع الخصائص الدينية، مثال ذلك الملك جلجامش المعروف بعناصره الالهية وصفته السياسية. وهناك عدد آخر من الملوك حازوا على صفة الالوهة أيضاً. إن التصورات الدينية للعالم عند السومريين والاشوريين والبابليين كانت تتسم (بتعدد الالهة) وتشخيصها حيث كان في تلك الفترة (عالم) الالهة عبارة عن انعكاس للعلاقات الاجتماعية في دولة المدن، وعلى أساس الاقتصاد الزراعي تلعب الاحتفالات الدور الكبير في الحياة الثقافية والدينية في المجتمع، ومع تثبيت (سلطة الملك). بدأ الملك في الاحتفالات يأخذ دور (إله الخصب) لأنه ممثل الإله وبهذا تم تقديس الإله، بتقديس الملك من خلال أدائه دور الإله وايضاً تقديس للإله من خلال تقديس الملك فقد لعب هذا الأمر دوراً أساسياً في تثبيت سياسية وأيديولوجية الملك.

وكان ممكناً للالهة في سومر/ بابل/ وكنعان التنافس فيما بينهم على مكانة الملوكية الالهية، كما في حالة إنكي في سومر، ومردوخ في بابل، وبعل صفون في كنعان، وان يشمل تنافسهم على تلك المكانة محاولة الاستيلاء على قارب السموات (أي زورق الالاهة مزموم الشفرين) أي فرجها مصدر الوهتها ومنبع قدرتها ورمز ملوكيتها كما في حالة إنكي/ انانا، أو مردوخ/ عشتار، أو بعل/ عناة، بمعنى اتخاذ الاله الذكر/ البطل القضيبي منهم الالاهة الانثى (عرشاً) له يجعلها الوجه الأنثوي التالي في المكانة لالوهته المذكرة، لكنه المكمل في الوقت ذاته لهويته الاندروجينية كذكر وأنثى، كأب وأم في آن معاً.   والملك السومري هو الحاكم في المملكة، ولكن القرارات المهمة كإعلان الحرب مثلاً أو خوضها، كانت تتخذ من قبل مجلس (القدماء) الذي كان يقوم بدور مجلس الأعيان، ومن قبل مجلس شعبي آخر كان يضم الرجال الراشدين القادرين على العمل أو حمل السلاح وهم بمثابة هيئة عامة في المملكة. 

 ولئن كان الملك السومري وهو (الرجل – المهم) يتلقى سلطته من الإله ويقوم بدور الكاهن الأول في المعبد خلال إقامة الطقوس إلا أنّ القصر أخذ يحتل أهمية أكثر فأكثر في ما يتعلق بالأحكام المدنيَّة، إلى أن أصبح الملك في نهاية الألف الثالث ق.م الحاكم الوحيد المطلق لبلاده. 

ولم يكن من شأن ذلك إساءة التصرف بالسلطة أو الاستبداد وتعميم الظلم بل على العكس، كان الملك شولكي ممثلاً للالهة على الأرض وذلك من أجل السهر على رخاء الشعب. وكان الشعراء والكهان يذكرونه دوماً بذلك في أناشيد التمجيد والمدائح مشيرين إلى اختياره من قبل الالهة.   والملك الذي يتغنى بمآثره الشعراء طواعية، بسبب مآثره وما حققه من أعمال مجيدة تجلب الكثرة والرخاء لشعبه، هو ملك يحبه شعبه وتحبه الالهة أنانا/ عشتار، ويستحق بذلك أن يكون قريناً لها في طقس زواج إلهي مع بديلتها، فيحقق بذلك تأكيد الخصب للبلاد وترسيخ ملكيته وكان الشعب والملك يؤمنان حتماً بقدرة أنانا/ عشتار على تحقيق ذلك.