إلى المُزاح أقرب.. سحريّة الواقع العراقي

ثقافة 2023/01/24
...

  ريسان الخزعلي


( 1 )

مازال الروائي المبدع طه حامد الشبيب يؤصّل تأسيسه الروائي الذي يقوم على فكرة أنَّ السحريّة قائمة في الواقع أساساً (السحريّة الواقعيّة).

ومثل هذا التوصيف يختلف عن توصيف (الواقعية السحريّة) الذي وصفت بهِ روايات ماركيز/ كمثال. إذ إنَّ السحريّة كما يرى الشبيب موجودة في الواقع وتعارضاته، ولا حاجة لأن نُضفي على هذا الواقع سحريّة تجميليّة من خارجه كي يتحقق الوصف: الواقعيّة السحريّة؛ وبذلك يكون الشبيب صاحب مشروع روائي أثبتَ فيه ما يُعزز فكرته: السحريّة الواقعيّة. فما بين عامي 1995 - 2022 أصدر 

(18) رواية (إنه الجراد، الأبجدية الأُولى، مأتم، الضفيرة، خاصرة الرغيف، الحكاية السادسة، مُواء، طين حرّي، حبال الغسيل، مقامة الكيروسين، وأد، وديعة إبرام، المعْظم، سأسأة، في اللا أين، عن لا شيء يحكي، خلوّ، إلى المُزاح أقرب) ومثل هذا الكم النوعي قلّما توافر عليه روائي آخر خلال (27) سنة.

إنَّ روايات الشبيب السحرية تضعهُ في مصاف الروائي العراقي المجدد أو الإضافة النوعية الجديدة في مشهد الرواية العراقية والعربية. ومما يُحسب لهذه الروايات تنوّع موضوعاتها التي لاتُذكّر بغيرها، فضلاً عن تفرّدها في أساليب البناء والسرد واللغة والتشكيل الصّوري.. الخ من الممكنات الفنيّة والجماليّة التي حققتها باجتراحات تمنحها صفة الخصوصيّة.

( 2 )

في رواية/ إلى المُزاح أقرب/ وهي العمل الأخير للروائي، يتأكد من جديد مفهوم السحريّة الواقعيّة، سحريّة الواقع العراقي. وهكذا كان موضوع الرواية مستلّاً من سحريّة تحوّلات الطبيعة في العراق  بعد أن حلَّ الجفاف في الأنهار، ولم  يعُد واضحاً للرؤية غيرُ (آخر قطرة ماء تجتاز الحدود وتلصفُ تحت شمس الظهيرة . وحتى هذه القطرة، تلاشت مندغمةً بطين قاع النهر).  

لقد هرع سكان المدن والقرى والقصبات لمشاهدة تضاحل مياه الأنهار واستقروا أخيراً قرب الضفاف وبنوا الخيام. كما هرع لاحقاً موظفو الحكومة وعناصر الجيش والشرطة، وعادت العشيرة لتكون حاضنة للجميع. وأمام هذا الجفاف لم تكن غير فكرة حفر الآبار في قاع النهر حاضرة لمقاومة الجفاف وقد طرحها زعيم حزب جديد - بدّلَ اسم حزبه ثلاث مرّات تبعاً لظروف العشائر -  أراد استمالة العشائر لحزبه. وقد تفاقمت الدهشة بعد العثور على بقايا جثث وعظام لبشر وحيوانات أثناء الحفر. وقد تطوّر الموقف إلى نزاع عشائري وقتال، وتضامنَ مع قتال العشائر منتسبو الجيش والشرطة وجلبوا الأسلحة إلى عشائرهم تاركين مشاجبهم فارغة، كما أصبح مبنى الحكومة فارغاً إلّا من بعض الحرّاس. ثم جاءت فكرة بناء مقبرة تضم رفات المجهولين - التي وجدت في قاع الأنهار- في حديقة أمام مبنى الحكومة. ومن صراع آبار المياه إلى الصراع حول آبار النفط والاستحواذ على عائداتها بالتهريب. وقد كانت الحجج، سواء كان في تمرير السلاح الى العشائر أو السيطرة على آبار النفط، تقوم على فكرة غريبة مفادها: الحفاظ على الممتلكات من سطو الأعداء! .. ، هذا هو الموجز السريع لأحداث الرواية.

( 3 )

تشاغلت الرواية بسحرية الواقع العراقي بعد عام 2003  وماقبله أيضاً، واستخلصت من هذه السحرية: 

 1 فقدان هوية الفرد الشخصية بعد تغييب الاسم الصريح والاكتفاء بعبارة (ابن العم). 

2  سيادة العشيرة بدلاً عن الوطن والوطنية.

3  ضياع مفهوم الدولة والحكومة.

4  فقدان النظام وسيادة الفوضى.

5 القتل المجاني

6 نشوء أحزاب آنيّة  نفعية.

7 تغييب مفهوم العسكرية وحفظ الأمن.

8 استغلال الأزمات من أجل المصالح الشخصية.

9 التجهيل المعرفي والتعليمي والثقافي.

10 تعاظم سطوة الشيوخ.

لقد عالجت الرواية كلَّ ما تقدّم برويٍّ مسترسل من دون انقطاع حتى وإن قُسّمت الرواية إلى فصول، وكان صوت السارد/ الروائي هو المهيمن حتى وإن خُفيَ ضمير المتكلّم، لذلك غابت سردية الشخوص عدا ثلاثة منهم، وهي سرديّة ضمن السردية العامة للرواية:

أ- فيّاض السقّا، زعيم حزب «الإرواء الوطني الديمقراطي» ذو الأسماء المتغيرة والتي كان آخرها حزب «الإسناد العشائري الديمقراطي». وللاسم (فيّاض السقّا) واسم الحزب دلالتهما التمويهيّة/ الإيحائيّة بما يتناغم مع الضد من الجفاف كي يكون المُخلّص منه.   

  ب- الحاج بدر، والحاج هنا تهكميّة إذ شاع استخدامها بطريقة لافتة بعد عام 2003.

ج- المرأة العارفة سَنا.

 ومن أجل إضافة ملمح سردي جديد، كان (المحلّق) غير المُعرّف باسم ما يرصد الأحداث من علّوٍ، وما هذا المحلّق إلا الروائي نفسه حسب تأويل القراءة.

( 4 )

إنَّ الإمكانيات السردية العليمة، كانت واضحة، وما هذا التماسك في البناء الذي يُفضي بعضه إلى البعض الآخر إلّا الدليل الكاشف عن هذه الإمكانيات. ومهما استطرد الروائي في التفرّعات فإنّه ممسك بمركز دائرة الرواية، يعود إليه كضابطٍ للإيقاع العام. كما أنَّ اللغة التي تلفحها أحياناً نكهة العاميّة، كانت لغةً ذات صلة بطبيعة الأحداث ومن داخلها، فلا تغريب لغوياً ولا تجريد. إنّها لغة سحرية الواقع. وسحرية هذا الواقع التي تشاغل بها الروائي لم تكن وليدة قراءات أو أوراق تاريخيّة، بل هي مواجهة وجودية مع الواقع، كان الروائي أحدَ الشهود عليه؛ ومن هنا تكتسب الرواية توصيفها الفني، بأنّها رواية الواقع وسحريّة هذا الواقع، الظاهر منهُ والمستور. ومن الإمكانيات العليمة للروائي، هذا السرد المتدافع الذي يخلو من الحوارات إلا ما ندر، وهي حوارات من داخل السرد العام أيضاً، وبذلك يتحقق مفهوم الرواية الذي يقوم على السرديّة الشاملة.

إنَّ الروائي طه حامد الشبيب في رواية (إلى المُزاح أقرب) لم يكن مازحاً، بل كان في فضاء التورية مشاكساً، لأن سحرية الواقع صادمة للوعي، وقد انتصر لوعيهِ تاريخياً

وفنياً.