وثيقة إدانة للحرب والاستلاب الإنساني

ثقافة 2023/01/24
...

  سامر المشعل 

"رسائل الجندي المنسية" الصادرة عن دار "كيوان" السورية للكاتب باسل محمد عبد الكريم، على الرغم من أنها تندرج ضمن أدب الحرب، حيث يوثّق الكاتب يومياته وارهاصاته وأفكاره واشتهاءاته أثناء الحرب العراقية الإيرانية، ليجد نفسه قد اقتلع من عالمه وحياته الخاصة، ليتحول إلى جندي مكلف يساق إلى الحرب رغما عن حريته. وفي ثنائية الحرب والسلام، والحياة والموت، والحرية والعبودية، والواقع والخيال.. يكتب الجندي المكلف خواطره وأفكاره.

يمسك الكاتب بذؤابات أفكاره وخواطره مع وصف للمكان المقحم فيه، لكنه لم ينساق إلى منهجية معينة في الكتابة، أو تحديد الحقل الذي يكتب فيه، لأن تكون سرداً أو رواية أو مذكرات.. إنما جاءت بسجية الخاطر التي تنطلق من أفق الكاتب بكل عفوية وصدق، فهو لم ينطلق بالكتابة ضمن توجه أيديولوجي أو سياسي، مثلما اعتادت الأنظمة الشمولية أن توجه كتابها لتزويق حروبها ومعاركها.. والتي أنتجت آلاف الروايات والقصص من أدب الحرب، وكان مائلها نفايات ومخلفات لحرب همجية تركت ندوبها في جبين الإنسانية، من أجل إرضاء غرور النظام الفاشيستي. ولم يكتب لهذه النتاجات الأدبية أن تسجل حضورها الابداعي في تجسيد الأدب الإنساني. 

إلا أن "رسائل الجندي المنسية" للكاتب باسل محمد عبد الكريم، هي تجربة إنسانية عاشها إبان الحرب ووثقها بصدق بطريقة لا تشبه أي أثر آخر. 

فكانت أشبه برسائل تاتي من العالم السفلي إلى الحياة، هي صرخات استغاثة للوطن  وللحياة.

يريد باسل عبد الكريم أن يدلي بشهادته على زمن مزيف، بعدما نجى من الموت، فهو أشبه ببوح وجودي بلغة موغلة بالأسى من واقع يغص بالمرارة والذل، لكنها لا تخلو من الشاعرية.

اسئلة وجودية تنطلق من ذات الكاتب المهمش إنسانياً في حرب سلبته حريته وتركته بعراء موحش ينتظر مصيره. 

مقتلع من عائلته من حبيبته من عالمه ليجد نفسه في ملجأ تحت التراب ينافس حيوات الجرذان والنمل مع أحاديث الجنود المكررة عن الحرب والموت.

يصف الجندي المكلف البصرة أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وهو يصلها صباحاً، وكيف أن الحرب اللعينة غيرت ملامح هذه المدينة الوديعة وتبخرت معها اشعار السياب ساعة السحر وغابت عن أفقها أصوات الخشابة ومرحهم.

يمر الجندي المكلف بالبصرة قاصداً مدينة "سربيل زهاب" الإيرانية، حيث مقر وحدته العسكرية.. وأثناء التحاقه تسير مع وقع خطواته وتتسع الخيبة والمفاجأة والموت المحدق به مع كل خطوة.

في منطقة جبلية وعرة تتخللها الجبال والوديان، يصبح فيها الماء عملة نادرة، ومن أجل أن يؤمن حصته من الماء لساعات مقبلات، يتحول إلى بغل بسهولة.

عوالم يعيشها الجندي المكلف منتزعاً من عالمه، ليصبح مسخاً بشرياً يحفر الملاجئ ويستقبل الإهانات، تمتزج الأتربة مع العرق على جسده، يشم نتانة جسده، كل الأشياء تدفعك لأن تحتقر ذاتك كحشرة كافكا. 

معدة شبه خاوية، عطش في الروح والحواس في أمكنة النفي الإجباري.. تتراءى له الحبيبة من عزلته بأطياف ملائكية فضية.. قبل يوم من الإجازة يحاول الجنود استعادة إنسانيتهم، من خلال الاستحمام وحلاقة الذقن وغسل الملابس لغرض التهيأ لملاقاة الأحبة والعودة إلى المجتمع الأدمي!.

رغم تصحر الواقع وغربته والخوف الذي يحيطه من كل جانب، إلا أن طيف حبيبته يتراءى له ويرطب مخيلته بعطرها، يحلم.. لو كانت كتاباً يرافقه، لكن كوابيسه تستيقظ، ويخشى أن تصادرها نقاط التفتيش كواحدة من الممنوعات العديدة في هذا الوطن!.

يحاول الجندي المكلف أن يقاوم الحزن والكآبة ويسرح مع نغمة الفرح المتفائلة لقصيدة الشاعر الالماني شيلر ممتزجة بنغمات بتهوفن في السيمفونية التاسعة "من أين يجيء الحزن الي وأنت معي".

عندما ينقل الجندي المكلف إلى مدينة الموصل تتغير نظرته للعالم وتكون أحاسيسه أكثر رهافة بمن حوله من أشجار الكاليبتوس ونهر دجلة.. بإمكانه التجول بالمدينة والتعرف على ناسها وعمارتها وجوامعها.. يشعر أن مدينة الموصل شديدة الشبه بدمشق.. رؤى تنطلق من الذات نحو المواقف الإنسانية. 

شريط الذكريات يتواصل باستعادة وجوه الأصدقاء ومواقفهم الوطنية، والفعل الثقافي والإضاءات المعرفية والفكرية، التي ما انفك الكاتب يبثها على صفحات الكتاب نتيجة قراءاته العميقة والمتنوعة.

يجد الجندي المكلف عزاءه بالكتابة ليبدد ظلمة روحه ويقاوم سوداوية واقعه، الذي أرغم فيه، هي خواطر متباينة يسطرها الكاتب على شكل نصوص متسلسلة الأرقام، لكنها تفتقر إلى الربط بين فقراتها، تكشف عن ذات مضطربة مسكونة بالخوف واللاجدوى تولدت، نتيجة لواقع كابوسي مضطرب منفلت عن المعايير الإنسانية وقوانين الطبيعة.

"رسائل الجندي المنسية"هي وثيقة إدانة معلنة ضد الحرب وعبودية الإنسان، وهي بذات الوقت صرخة احتجاج ضد الدكتاتورية بشتى أشكالها.