خفوت الشعر.. ضمور الموهبة أم تضخم الوعي الإنساني؟

ثقافة 2023/01/25
...

موج يوسف 

إنَّ الناظر إلى شُرفةِ الشعر البهية سيلاحظ خفوت الأضواء منها ــــ بالرغم من المهرجانات والمسابقات ـــــ فلم يعدّ القرّاء ولا النقّاد يجدون شعراً يجلعهم يتبعون القول: ( ويسهر الخلق جراها ويختصم). وبعبارة أخرى : إنَّ الشعرَ في وقتنا الحالي لم يعدّ يشكلُ ظاهرةً أدبية واجتماعية، بل صار إبداعاً فردياً، ولا أبالغ إن قلت إنَّ من دواوين أغلب الشعراء لا أجدُ سوى بضع قصائد تستحق الاحتفاء.

وهذا ما يجعلنا نضع المشهد الشعري بمجهر تحليلي، ونشرّح أسباب وجود الفايروس في الشعر العربي، فهل وقع في براثن التقليد، وصار يكرر ذاته؟

أو أصبح لا يلبي حاجة نفسية واجتماعية وعاطفية ـــــــ كما أبلغني العديد من طلابي الجامعيين عن سبب بعدهم عن الشعر الفصيح ــــــــ ممّا جعل أغلب دور النشر تنأى بنفسها عن طباعة المجموعة الشعرية؛ لأنها تعرضهم إلى خسائر مادية بسبب عدم إقبال القارئ عليها. وعن جمهور الشعر، فعند حضوري للكثير من الجلسات الشعرية أرى حضور النخب المثقفة، من أكاديميين ونقاد، وشعراء أدباء، ولم أُصادف حضور ملتق من الطبقة غير ما ذكرته إلا بشكل نادر، بينما تظهر مواقع التواصل مقاطع لشاعر شعبي بجلسات شعرية وبفضاء مفتوح لا يتسع للجمهور الحاضر، فهل الشعر الشعبي يداوي كدمات الفرد لا سيما في العراق؟

وهذا ما جعل شعبي مظفر النواب كإنجيل يورثه من جيل لجيل. وموفق محمد الذي يعدّ من أكثر الشعراء قرباً من الأجيال الجديدة، ومن كلا الجنسين فتيات وفتيان، وإن وضعنا قصيدته بالمقاييس الفنية والإبداعية نجدها تقترب من المباشرة، فهل هذه الشهرة والإقبال بسبب موضوعاته الشعرية التي تعبر عن دواخل كل مظلوم من السلطة؟. 

بالمقابل هناك شعراء كان ينمو الشعر بعروقهم، ولهم حضور إبداعي وجمهوري، لكننا نرى الشعر قد طردهم من مملكته، فصاروا يعيشون على كتابة سيرهم وسير مدنهم، ودراسات أدبية، ونقدية، ومنهم من يلجأ إلى الترجمة، والتحكيم بجوائز أدبية، ولا نجد لهم قصائد أو صدور أعمال شعرية، وحتى لو كتب، فليست بالمستوى الذي عهدناه عنده. فهل انطفأ الشعر؟

أو نحن بحاجة إلى نازك أخرى لتعيد مجده وتجعله ظاهرة كالشعر الحر، الذي صار مالئ الدنيا وشاغل الناس في تلك المرحلة؟ أو لأنَّ العراق الذي اكتوى بنار الحروب، وما خلفته من تشوهات في جسد المجتمع، لم تهيئ الظروف لشعرائه الابتكار والتجديد، فأثّر في إخوته العرب؟

إنها تساؤلات وإشكاليات لابد من رصدها، وهي تحتاج أولاً إلى الاعتراف بأن الشعر لم يعد الجنس الأدبي الأول بلا منافس، بل زاحمه السرد والروايات، وفنون أخرى . فهل سنقول إن الشعر لم يعد ديواناً للعرب؟ وبماذا سنستبدله؟ 

إنَّ القصيدة الحالية ــــ أغلبها ــــ مصابةٌ بأمور عدة : فقر موهبة الشاعر، فهذه الأخيرة باتت لا تغذي جوعه الشعري، فنجده يكتب قصائد بلفظ يخلو من المعاني، وهذه الأخيرة مطروحة في الطريق كما قال الجاحظ. والأمر الآخر لم يصل إلى أسرار اللغة، فصارت اللغة العربية بقاموسها الكبير تعاني من ركود، بل لن يعيد الشاعر خلق اللغة، فيلجأ إلى دسّها بالغموض والرمزيات، ويريد من قارئه أو ناقده أن يطبق قول الشاعر الفرزدق عندما اعترضوا على قوله : ( كان الزنا فريضة الرّجم)، فعندما واجهه أحد النقاد بغلط قوله، ردّ عليه بكلمته المشهورة: علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا. 

فكيف لنا أن نؤول هذا النص الذي حاز على ألفي إعجاب لشاعرة ذات حضور عربي كبير، تقول : رجعت لي / كأن شيئاً لم يكن/ قل لي بربك أي شيء أرجعك؟ 

      أرجعت تنشد وصلَ قلب صادق ضيّعته/ وبعمره ما ضيعك.. 

فالنص مباشر، لا صور  فيه، ولا لغة مشحونة بالأفكار، وكل ما يحضر فيه العاطفة، والإغراق في الذات، وهذه الأخيرة تمثل ظاهرة غير صحية في القصيدة العربية المعاصرة، إذ يغيب الآخر وآلامه وواقعه وما يمرّ به من أزمات، فلمن يكتب؟ إن معاني الجاحظ المطروحة في الطريق، تبدو هكذا عند أغلب الشعراء، فالقصيدة المعاصرة تعاني أزمة لفظ ومعنى، وتشكل ظاهرة أيضاً، كقول لا على سبيل الحصر لأحد الشعراء الذين يشاد بإبداعهم، وله جمهور أدبي يقول : أنت لا تفهمين إذن 

                          رجل في كتاب / سوف يعبر مبنى الجريدة، شعركِ هذا الصباح

فيشغلني عن دوار القصيدة/ أتأمل فوضاك من فتحة القميص 

سيمرُّ بي العطر/ يأخذني لتفاصيل جسمك أو لتفاصيل حزني .. 

فالنص إلى آخره يغيب عنه الموضوع ، فضلاً عن توظيف لغة المحكي التي أفرغت اللفظ من معناه، فصرنا نقول ماذا يريد أن يقول الشاعر؟. 

وهناك أمثلة كثيرة في الشعر العربي المعاصر، تتطلبُ دراسةً شاملة، وليس مقالةً، وما أوردته من نماذج شعرية سابقة لشعراء مبدعين؛ لئلا يقول القارئ إن حالة اللاشعر طبيعية إن كانت لشعراء ضعاف الموهبة أو الخبرة. كما أنني لا أريد أن أغفل عن قضية أخرى وهي المرجعيات الثقافية التي تحيلنا إلى منابع الشاعر الثقافية أيّا كانت، أدبية، تاريخية، دينية، فلسفية، فنلحظ حضورها الخجول، أو الغائب بشكل نهائي. هذه الأمراض التي يعاني منها الشعر العربي، فهل يمكن إحالة الشاعر إلى سن التقاعد كما فعل بلند الحيدري عندما أعلن تقاعده! ففي قرارات كهذه أجدُ احتراماً للمتلقي، والأدب، كما أنها تستفز الجيل الجديد ليشكل ظاهرة تخرج الشعر من سرير الإنعاش إلى عالمه الإبداعي.