جذور الفنِّ الإسلامي في فنون الحداثة

ثقافة 2023/01/25
...

كاث باوند

ترجمة: مي إسماعيل

هناك دائماً أوقاتٌ في التاريخ لم يخلُ فيها أيّ مجالٍ فني من تأثير الفنِّ والتصميم الإسلامي.. بعد عرض ناجح بمتحف الفنون الزخرفيَّة في باريس، أقام متحف دالاس للفنون معرضه "كارتييه والفنّ الإسلامي"؛ كاشفاً عن الطرق التي قدّمت فيها التصاميم الهندسية للفنِّ الإسلامي إلهاماً لكارتييه (أحد كبار مصممي وصانعي الحلي والمنتجات الثمينة الفرنسيين. المترجمة) لخلق جماليات حديثة ورائدة للمجوهرات الراقية منذ بداية القرن العشرين.

من منظور الاستشراق

تصاميم كارتييه جزء من علاقة عمرها قرون طويلة بين عملية الخلق الفني الأوروبي والفنّ الإسلامي؛ وهي علاقة يصفها "أوليفييه جابت" مدير متحف الفنون الزخرفية الفرنسي بأنها كانت دائماً "سياسية للغاية، مع مزيج من الافتتان والعنف والهيمنة". رغم أنَّ التجار والدبلوماسيين كانوا (لقرون طويلة) الأوروبيين الوحيدين القادرين على زيارة ممالك الشرق الأوسط؛ شهد ظهور الحقبة الاستعمارية والنفوذ الغربي المتزايد في المنطقة فرصاً للسفر منذ القرن التاسع عشر. تقاطرت وفود من الفنانين الأوروبيين والأميركيين الشماليين إلى القسطنطينية (إسطنبول اليوم) والقدس والقاهرة ومراكش. وخلطت اللوحات التي ابتكروها الخيال مع الواقع بحريّة؛ خاصة حينما يتعلق الموضوع بتصوير "الحريم"؛ وهي مواقع لم يتسنَّ لأيّ رجل إطلاقاً الحصول على إذنٍ بالدخول إليها فعلياً. صوّرت لوحات مساكن الحريم النساء المحليات من منظور "الشخص الآخر الغريب" بأسلوب يعكس أيضاً شعوراً بالتفوق الغربي. ولكن رغم انتقاد الاستشراق المبتذل لتلك الأعمال؛ إلا أنَّ تلك اللوحات قدّمت لجمهور أوسع اللمحة الأولى لجماليات الحِرف الإسلامية؛ وهو مجالٌ لم يكن حينها موضع اهتمام كبير لباحثي المتاحف الغربية. قد تكون المشاهد التي صورها أولئك الفنانون غير دقيقة؛ لكنهم صوروا الأشياء والقطع الأثرية بدقة لا حدود لها. وأذهلت تصاميم البلاط ذات النقوش الزهرية المنمقة والمعالم المعمارية الهندسية، والأعمال المعدنية المزخرفة والمجوهرات الرائعة والمنسوجات والسجاد المعقد التصميم جامعي التحف الغربيين. 


يقول "لوسيان دي جيز" (الذي كان قيّماً على معرض "ما وراء الاستشراق-Beyond Orientalism" عام 2008 بمتحف الفنون الإسلامية في ماليزيا، لاستكشاف تأثير الفن الإسلامي في الغرب): "جاءت اللوحات قبل الدراسات والأبحاث؛ إذ بدأ كثيرون يشترون الأشياء لأنها رائجة ومطلوبة، وسبب كونها كذلك أنَّ فناني الجيل السابق ذهبوا إلى تلك الأماكن وجلبوا معهم كميات كبيرة من السجاد والأسلحة وتحفيات أخرى". وبينما كان جامعو التحف يشترون القطع الأصلية بحماسة؛ كان المصممون يستخدمونها مصدراً للإلهام.. ألهمت منتجات السيراميك العثمانية الجميع؛ من "وليام دي مورغان" (صانع فخار وسيراميك بريطاني) إلى "فيليراي وبوش" (صانعي فخار ألمان)؛ بينما كانت مزهريات قصر الحمراء الرقيقة مصدر وحي وتقليد لصناعة الأواني اللامعة من صنّاع مثل صانع البورسلين والأواني الزجاجية المجري "زسولناي". أما بالنسبة للبرجوازيين ذوي الاهتمامات الجمالية؛ فقد قدمت كتب مثل دراسات "كريستوفر دريسر" في التصميم (1876) نصائح عن كيفية استخدام الزخارف الإسلامية في المنزل. 


انبهار بالفنّ الجميل

للمفارقة التراجيدية؛ أنه بينما كان الغرب يستقبل استفاقة تجاه جمالية ومهارات الفن الزخرفي الإسلامي؛ كانت تلك الحِرف تواجه التهديد في بلدانها الأصلية. إذ قاد تضافر الاستعمار الغربي والتغلغل الاقتصادي والثقافي في الدول غير المُستَعمرة إلى "حقبة من الخمول الفني والركود الثقافي"؛ كما كتبت مؤرخة الفن الأردنية "وجدان علي" عام 1992 في مقال لها بعنوان "مكانة الفن الإسلامي في القرن العشرين"؛ قائلة: "سرعان ما تغلبت الجماليات الغربية على التقاليد الفنية الأصلية، التي باتت تفقد قوتها وتصبح أكثر (غربية)". وهو ما وصفه دي جيز قائلاً: "أصبح ((الفنانون)) مندفعين للتحديث؛ ولم يعطوا الاهتمام لأجيالهم من الحرفيين كما فعلوا حتى القرن التاسع عشر". ولكن رغم تزايد التقييم للفنون الإسلامية في الغرب؛ لكنه كان ما زال مشوباً بتفسيرات مبتذلة. في عام 1864 جرى إنشاء مؤسسة جديدة هي "الاتحاد المركزي للفنون الجميلة التطبيقية للصناعة" من قبل مجموعة من المتحمسين المكرسين لدراسة الفن الإسلامي. وأعيدت تسميته عام 1882 "الاتحاد المركزي للفنون الزخرفية"؛ وكان لهؤلاء دور فعال بإقامة المعرض الأول لفن "الإسلام" في قصر الصناعة عام 1893. كانت جودة المواد المعروضة هنا مذهلة، ومن الواضح أنها مدفوعة بنوايا جادة لتتبع تاريخ الفن الشرقي، وحتى تحفيز الإبداع الغربي. ومع ذلك فإنَّ سينوغرافيا الاستشراق وخلط الأساليب الفنية لم تحظ بالتقدير من قبل هواة جمع التحف؛ الجادين وحَسِني الاطلاع بشكل متزايد. وكان يتعين الانتظار حتى سنة 1903 لإقامة المعرض العلمي الواقعي الأول، بتنظيم من أمين شاب لمتحف اللوفر- "غاستون ميجون". قوبل معرضه عن "فنون المسلمين" بحماس غير مسبوق، وكتب عنه جامع الفنون "جورج مارتو" قائلاً: "لم تكن عيوننا مفتوحة حقيقة حتى عام 1903". 

مفردات بصرية

رغم أنه لم يتأكد فعلياً أنَّ "لويس كارتييه" (الأخ الأكبر لعائلة كارتييه، الذي سيكون له الدور الفعال بتوسيع سمعة الشركة العالمية) قد زار المعرض؛ لكنَّ كاتالوغ المعرض موجود في أرشيف كارتييه. لذا يبدو واضحاً أنه كان مُلمّاً بمحتوياته. في ذلك الوقت كان صانعو المجوهرات عالقين في روتين إعادة التدوير المتكرر للطُرز الأوروبية التاريخية. تقول "سارة شليونينج" أمينة الفنون الزخرفية والتصميم بمتحف دالاس للفنون: "إذا نظرنا إلى كارتييه لوجدنا أنهم كانوا فعلاً ضمن نمط الكلاسيكية الجديدة؛ أو ما نسميه الآن "نمط الإكليل".. وهناك نوع من الإثقال بالزخرفة. كان كارتييه مهتماً بالعثور على نمط جديد؛ لكنه لم يهتم كثيراً بالجماليات الحديثة في وقت كان عصر الانتقال إلى "الفن الجديد" "آرت نوفو-Art Nouveau". فأعطاه المعرض المفردات البصرية التي كان يبحث عنها.. رأى هنا في الهندسية؛ تلك الزخارف الصافية، كمسار رائع للأمام. وكان بالإمكان رؤيتها ((في منتجاته)) منذ عام 1903. بدأ كارتييه يتلاعب بتلك الأفكار؛ أحياناً بنمط من الاختزال والتجريد (كما ظهر في مشبك مذهل دقيق ضم مجموعة من المثلثات). ولكن في حالات أخرى نراها تتسلل إلى نوع من نمط الأكاليل.. لقد بدؤوا يدخلون تلك الزخارف والتلاعب بها، والبحث عن نوع من الطرز الانتقالية". 

تلا معرض باريس سنة 1903 معرض رائد آخر في ميونيخ عام 1910، قام بتجميع المقتنيات بعناية وفقاً للتقنية والأصل الجغرافي؛ بهدف محدد هو إلهام الإبداع المعاصر. يمكن القول إنَّ ذلك المعرض كان المحفز للويس كارتييه لتطوير مجموعته الخاصة؛ الذي كان له اهتمام خاص بالمخطوطات والتحف المُطعّمة من إيران والهند خلال القرنين 16 - 17. منذ تلك النقطة فصاعداً أصبحت العمارة الإسلامية والمخطوطات والمنسوجات مصدر إلهام بارزاً بشكل متزايد لمصممي كارتييه. وأصبحت حواجز شرفات المباني المسننة وزخرفات الطابوق والنقوش لوزية الشكل وتيجان المظلات والمخطوطات جزءاً من صفات زخارف كارتييه المميزة. منذ العقد الثاني من القرن العشرين باتت مواد وألوان الفن الإيراني مؤثرة بشكل خاص؛ وظهر لون أزرق اللازورد أو الزفير وأخضر اليشم أو الزمرد ضمن نمط الطاووس الشهير. وفي أماكن أخرى جرى الجمع بين الفيروز الإيراني واللازورد الأفغاني الأزرق الغامق المرقط؛ لإعادة إنتاج مجموعات الألوان التي توجد غالباً في أعمال الطابوق الخزفي المزجج والبلاط في آسيا الوسطى. وكان لون المرجان واللون الأسود توليفة أخرى مفضلة؛ يمكن رؤيتها في تصاميم تفضلها "سارة شليونينج"؛ منها عصابة من عام 1922 مصنوعة من المرجان والعقيق والماس. تصفها شليونينج قائلة: "إنها واحدة من القطع التي تعبر عن كل شيء.. ففيها تلاعب ((بتصاميم)) الأروقة وأقواس حدوة الفرس؛ لكنها مركزة داخل شكل مصغر، ملفوف في شكل منحني الخطوط؛ وكأنَّ من ترتديها ترتدي عمارة مصغرة". ورغم أنَّ كارتييه قام دون شك باستخدام مبتكر وبشكل فريد للزخارف الإسلامية، وخلق أثناء تلك العملية جمالية حديثة بشكل مذهل؛ فلم يكن هناك مجال فني محصن ضد تأثير التصميم الإسلامي. 


عودة إلى الواجهة

زار الفنان "هنري ماتيس" (كما فعل كارتييه) معرض ميونخ 1910، وبعدها زار جنوب إسبانيا وقصر الحمراء في غرناطة، الشهير بزخارفه الدقيقة. يشير "دي جيز" إلى أنه بعد تلك الزيارة باتت ألوان ماتيس أكثر أصبح اللون أكثر حدّة، ونمط عمله أكثر تسطحاً واستواءً. وعندما أنتج لوحاته من قصاصات الورق الرائدة.. "كان وجه الشبه بينها وبين تصاميم البلاط المغطى بالفسيفساء الذي رآه في قصر الحمراء واضحاً". كذلك أصبح الفنان الهولندي "موريتس كورنيليس إيشر" (اشتهر بلوحات ذات تركيبات غرائبية معقدة تستند إلى مفارقات الرياضيات. المترجمة) مفتوناً أيضاً بقصر الحمراء؛ وكان من شأن تناظرية القصر وإبداعه الرياضي أن يلهم أعماله المرئية المحيرة للعقل. ما لبثت زخرفيات الفن الإسلامي أن ظهرت في تصاميم الأزياء المسرحية والمنسوجات وقطع الديكور؛ خاصة- المقرنصات والأقواس. 


بالطبع تتغير اهتمامات الذوق العام وتتلاشى التأثيرات الأسلوبية مع الزمن، وبحلول منتصف القرن العشرين لم يعد التصميم الإسلامي موضع الاهتمام الأول في الغرب. لكنَّ عدداً من المعارض الفنية أعاد ذلك الاهتمام إلى الواجهة في السنوات القليلة الماضية؛ كان منها معارض في فرنسا وإنكلترا وماليزيا. بتجدد الاهتمام بالفن الإسلامي؛ تتساءل شليونينج عما إذا كانت المعارض الحديثة ستصير حافزاً لجيل جديد من الفنانين والمصممين؛ قائلة: "عرضنا منتجات عرضت سنة 1903، وأخرى وضحت كيفية إلهامها للمصممين. نحن نعرض ذات القطع لجمهور جديد، ولدينا فضول لنرى ما سينتج عن ذلك".