في مديحِ صريفِ الأقلام

ثقافة 2023/01/26
...

 طالب عبدالعزيز        

صوت القلم على الورقة هو الصوت الوحيد الذي يبقي العالمَ حياً، لأنه صوت الحياة. كأنني قلت هذه ذات يوم، ربما أردت فيها تمجيد نفسي، كنت قبلها قد قرأت البرتغالي فرناندو بيسوا وهو يكتب: «ليس طموحي أن أكون شاعراً، إنها طريقتي في أن أكون وحيداً» لعله أراد أن يكون وحيداً مع أوراقه وأقلامه. هكذا، أردت أن أمتدح الكتابة لا غير، ولأقف طويلا، أتأمل الأمكنة والطاولات والأقلام والمحابر حيث جلس الشعراء والكتابُ والرسامون، وحيث تناثرت الصحف والقراطيس من حولهم..

أردتُ أنْ أرمي ببصري في المديات التي ظلت شاغرةً بين أعينهم، وأصغي للأصوات التي مازالت تنبعثُ من هناك، محمولةً بأكفِّ االظلام، أنتظرُ، ريثما تُفرغُ مادتها في أذني، علّني أحرّرُ ما أريد.. السطور تلك مازالت تمتدُّ، منذ خمسين سنة وهي تمتدُّ، لا يحدّها الورق، ولا تُستغورُ في الآماد، هي تزدحم حسبْ، في الفضاء الممتدِّ بين الريح والريح، أنّى لي تعقّبها!. 

  لم تكن عواطفَ تلك القصائدُ والروايات التي نقرؤها، الآخرون لديهم عواطف مثلنا، إنَّما هي نتاج تجارب وحياة مختلفة، ولكي تكتب قصيدةً واحدةً ينبغي عليك أنْ تفتح عينيك على كلِّ شيءٍ من حولك، وتأتي بعشرات الناس والأمكنة والأزمنة الى طاولتك، وتختلقَ ما شئت من الصور والأسماء والوقائع، فالقصيدة نتاج ذلك كلّه. كانت أمُّ بورخيس تغادر المنزل وتتركه وشقيقته وحدهما، يلعبان، ولأنّهما بلا أصدقاء فقد اخترعا صاحبَين خياليَّين، ولسبب ما أطلقا عليهما اسمين هما (كويلوس والطاحونة) لكنهما سئما منهما بعد حين، فأخبرا أمّهما بأنَّهما ماتا. الكتابة في بعض مطالبنا هي أنْ تقومَ ببعث الروح في ما أهملنا من حولنا، وإضاءة ما يُعتم في غرفنا الخاصة. نحن بحاجة دائمة - في لحظات التوقد - الى حوار وإنْ ظلَّ متقطعاً مع الرموز والأسماء والأشكال.. تلك التي صادفتنا في ما قرأنا وتعلّقنا به، السطور تلك هي مادة حياتنا.

  في (صحيفة الغرباء) وهو كتاب يومياته، يقول علي بدر: «إنَّ تشكيلَ بلادٍ جديدةٍ لا يتمُّ إلّا عبر سرديَّاتٍ جديدة» أكانت الكتابة في مواجهة أخرى سرديَّة من أعمال الهدم والبناء؟ ربما. وربما كانت الأجمل بين أنواع الهدم، إنْ لم تكن الأصدق بين أنواع البناء. هناك من سيقول: لن يكون كلُّ ما نهدمه مُسَبَباً بانتفاءِ الحاجة اليه، لكنَّ الحياة بحاجة دائمة لإحيائها، وإنْ بمعْولٍ! أقول: أبغير المعاول نقطّع أوصالَ الأرضِ مهاداً لبيوتنا وزروعنا؟، وإذا ما أردنا بلوغ حقول الكلمات وقصدنا مفازات الجمال عبر صوت القلم على الورقة -صوت الحياة الأبدي- سيتوجب علينا الذهابُ بجُماع مداركنا الى المعنى الأول والأسمى

للحياة. 

ألا ننظر إلينا ونحن نملأ أرففَ مكتباتنا بالكتب، ثم نعيد إفراغها من كتبها الأولى، ونفعل ذلك بتواتر الأجداد والآباء والأحفاد، كيف لا والكتبُ مِقْرَعةُ الباب التي تُفزعُ الأسئلة فينا. لو لم يلتقِ غارسيا ماركيز بالفتاة الجميلة، التي رآها في مطار باريس، ولو لم تجلس بجانبه، في الطائرة، المتّجهة الى نيويورك، لما تذكّر رواية (ياسوناري كاواباتا) وكتب مقدمة روايته (الجميلات النائمات) ولمَا كتب لنا روايته المختلفة (ذاكرة غانياتي الجميلات).

  في العام 2010 أهداني صديقي الفنان التشكيلي (ياسين وأمي) دفتر رسمٍ، جميلاً وأنيقاً، على أمل أنْ أخطَّ فيه بعضاً من قصائدي، ليقوم، وبقلمه الرشيق، الذي أعرفه بوضع تخطيطاته عليها، في مجاورة للرسم والشعر، وهذا ما كنتُ أتطلّع إليه، ومنيّتُ نفسي به، لكنّني، نسيتُه، نسيت الدفترَ والتهمت الأرففُ المظلمةُ صفحاته المشرقات، جَعَلته في خبيئتها، وانطوت عليه. إثنتا عشرة سنة مرّت على اختفائه وفقده. البارحة، وفي مصادفة لا علاقة لها به، عثرتُ عليه، كان سليماً ما يزال، لم تمسسه يدُ الهجر بسوء، ولم أكتب فيه حرفاً واحداً، تصفحته فبدا لي أكثر أناقةً وجمالاً. لكنّني، نسيتُ القصائدَ التي وصفتُها له، وقد ذهب بعضُها الى ماكينات الطباعة، وأخرجته بأحرفها الالكترونيَّة، وأهملتُ البعضَ الآخر بالتأكيد، وهكذا، وجدتني بين ندم النسيان وبهجة التذكر، لا أحفلُ بشيءٍ، إنّما أبحث عن عذر أتفادى به عتب صديقي الرسام.

  هل أجد في (إيريس مردوخ) شيئاً من عزاء، هي التي كتبت: «سيلقي أحدُهم حفنةَ الرمل الأخيرة، وسيأتي الظلام الأبديّ. هناك، في الأرض التي لم أعرفها، سيكون للنوم معنى آخرَ، حيث لا أحد يوقظني إلى الأبد» أمسِ، حين مررتُ بزقاقٍ مُنفّر من شارع أبي الأسود الدؤلي بالعشّار صحبة عادل مردان وهاشم تايه وصالح جادري تذكرتُ مكتبةً كان اسمها (المثقّف) صاحبها الشاعر عماد عمران فياض، وفيما كانت السوقُ تلتحف بضوضائها تذكّروا مكتبة (المنار) التي على الجادّة، أنا تذكرتها معهم أيضاً، وتراءتْ لنا أغلفة كتب سارتر ودي بفوار وكامو.. التي كانت بواجهتها. من الأزقة تلك كان ينبعث صريفُ الأقلام على الورق، خطوط الحياة الأولى.. ومن هناك كانت تردنا أصواتُ تساقط الكتب من أرفف المكتبتين اللتين لا أثر لهما

اليوم.