متى يحينُ الوقتُ لإهمال التّرجمة؟

ثقافة 2023/01/26
...

 ملاك أشرف

أثناء قراءتي المستمرّة في إحدى الأنهر عثرت على عبارةٍ لميخائيل نعيمة يوجهها إلى الأديبة والشاعرة تحديدا ميّ زيادة، إذ العبارة في كتابه (الغربال) استوقفتني ولمْ أستطع تجاوزها، ذهب فيها قائلا: «حرام على كاتبة من طبقةِ ميّ أن تتلهى بالترجمة، ولها من عواطفها وأفكارها ما تقدر أن تنسج منه قصائد وروايات ومقالات كثيرة».

هذا كافٍ لوصفِ الأشخاص الماهرين والباهرين، الواجب عليهم إمضاء الوقت في تأليفِ بدائعهم الخاصّة وعدم استنزاف طاقاتهم الرّائعة وجهودهم من دونِ تخطيطٍ وتنظيم بشأنِ الأدب والكتابة على وجهِ الخصوص، في الوقتِ نفسه لَمْ نكن أنا وميخائيل ضدّ عملية التّرجمة المُهمّة يومًا ما أبدًا، بل معها لكن بوعيٍ وإدراك تامّ، يسعفُ الشّخص في التّوصلِ إلى متى تكون وتُنجز هذهِ التّرجمة ومتى يهملها وينصرفُ إلى اشتغالاتٍ أهمّ وضروريّة غيرها.

هُنا العُمر الأدبيّ، مرحلة العُمر الشّبابيّ، وغزارة الإنتاج ونضجه أو عدمه هو الذي يُحدد إذا حانَ وقتُ الإهمالِ أو المُجازفة بالعملِ والتّرجمة بجانبِ والانتباه إلى المقدرةِ اللُّغويّة وضعفها عندَ الفردِ الرّاغب بالتّرجمةِ نفسه، الخيال الخصب وضيقه، كمية العاطفة ومدى قوّة الوجدان وتحجره وتلاشيه فضلا عن التمكّنِ الإبداعيّ وغيابه طبعًا، نسبة المذكور هذا هو مَن يملي على المُترجمِ ماذا يُنجز أوّلًا كما يتيحُ فرصة الحكم على المُترجمِ أن كانَ مُتهوّرًا ولا يُقدر موهبته وعظمتها، ويُسخّر ما يُمكنه لمضيعةِ الوقتِ أو ذكيًّا ناجحًا وما يمارسهُ في نصابهِ حتمًا!.

قد يكون رأيي مُختلفًا صادمًا في هذا الموضوع إلّا أني بجوارِ ميخائيل نعيمة في أن قويّ الفكر والخيال، مُفرط العاطفة وبليغ القول والخطاب، عليهِ أن يصرفَ نظره إلى نسجِ مُؤلّفاتهِ وعالمهِ الأدبيّ الفريد، بعيدًا عن الاِلتهاء في إبداع المُقابل وتصريحاته الكتابيَّة، إذ لكُلِّ مُجتهدٍ وفصيح نصيب من تكوينِ وتدوينِ الآراء والأفكار، الّتي تخصّهُ وحدهُ سواء أمسى يدسُّها في مقالةٍ أو شعرٍ أو رواية، لا يهمّ، ما يهمُّ اشتغاله الدّائب التّأليفيّ الفرديّ، المرجو منهُ أن يكونَ صاعقًا ومُتميزًا وفق ذهنيته المُنظمة البرّاقة، ثُمَّ الالتفات إلى التّرجمات بينَ حينٍ وآخرَ، نعم لا بأسَ بِها، حقًّا لا بأس، لكن مَن مثل ميّ زيادة وتلكَ العقليّة الرّهيبة المُمتازة، يصعبُ تقبّل توجهها إلى ترجمةٍ أو شيءٍ ثانٍ هو سطحيٌّ باهتٌ مقارنةً بتركيبتها المُذهلة ولُغاتها المُتعددة المُتقنة، الّتي تدفعُ بِها إلى كتابةِ كم عجيب من الكتبِ قطعًا!.

هو نقدٌ بناءٌ ورسالةٌ ذكيَّةٌ سديدة من ميخائيل بعثها إلى نماذجِ ميّ زيادة، مُتخذًا منها وسيلةً للحديثِ والإعلان عن نصيحتهِ، أيّ ليست رسالةً ساذجةً مُتسرعة وثرثرة زائدة تافهة وهدامة والأرجح لَمْ تصدر من فكرٍ محصور رثّ، لا سيّما مَن يملكُ لُغةً ساحرةً وإمكانية تعبيريّة جَذَّابة سوف تكون التّرجمةُ بالنّسبةِ إليهِ لهوًا ومُتعة، يقومُ بإكمالِها بسرعةٍ ويؤسّسُ لُغةً جديدةً تختلفُ عن الأصلِ بفضلِ لُغتهِ المُستعملة ذاتها واندماجها وتفاعلها الحميم مع لُغةٍ ثانية، ولو كانَ الأمرُ غير هذا فما كانت هُناك إعادةٌ للترجمةِ ومُحاولاتٌ لاحقة بعدها، تُحتم إذن ترجمة مُعيّنة ولادة ترجمة عنها.هذهِ العبارة كُتِبت وتفوّه بِها الأديب البارع ميخائيل؛ جراء ترجمة ميّ لكتابِ (ابتسامات ودموع أو الحُبّ الألمانيّ) للروائيّ فريدريخ مكس مولر، حيث بدأَ عبارتهُ بسطرٍ يضمرُ في كلماتهِ توبيخًا خفيًّا لميّ، عبّرَ عن فعلتها هذهِ بأنّها لَمْ تقضِ وقتها وحيويتها في ترجمةِ كتابٍ يليقُ بِها أفضل منهُ، مُستغلة الزّمن في أفعالٍ أصوب، أدقّ وأبهى، تُعيرها أهتمامًا ومَجْهُودًا وساعةً مفتوحة علاوة على ذلكَ حسن اختيار مُناسب، تقلعُ عمّا يُخالفُ عذوبتها وذوقها الحقيقيّ في الانتقاء، القراءة، الكتابة وأيضًا الفنّ، ذوقها وطبعها المُتأمّل المُتألّق الّذي ينأى دومًا عن البهرجةِ والبلادة.

أسلوب مكس مولر الحسّاس اللَّبِق كما كانت تراهُ ميّ مُشبعٌ بالفكرِ، الحكمةِ والسّلاسة؛ لمّا عليهِ من شاعريّةٍ فطريّة، تُحسن التّعبير عن القُرّاء. تسنى لي قراءة الكتاب بترجمةِ ميّ شخصيًّا، فأمسى عنوانهُ أثناء التّمعّن في المُقدّمةِ اختلاقًا وتألّيفًا من ميّ وأن الأصل هو (الحُبّ الألمانيّ) فقط بلا ابتساماتٍ ودموع، التي توهمتها وارتسمت في نفسِها.

 وهُنا تجلّت تقريبًا مسألة التّعريب ونقله إلى العربيَّة حسب الفهم وحسب ما تريدهُ المُترجمة فأسقطت طائفة من المُفرداتِ والعبارات والمعاني السّاحرة تعمدًا وسهوًا لعدم اِتقانها الألمانيّة كُلّيًا، رُبَّما بسبب ما آلت إليهِ من طريقةٍ في النّقل أغضبت ميخائيل ووجدها سوءًا وعدم حرفيّة وإجادة للمهنة الكبيرة الخطرة، خاصّةً هي تشتغلُ على إيصال كتاب بلُغةٍ ما وليست مقالة أو قصيدة واحدة أو شيء أيسر من فكرةِ الكُتيّب، لِتتصرّفَ بما ترغب وتشاء!

أو باتَ ميخائيلُ يشاهدُ قلّة جمال وبراعة في المضمون والصّياغة عكس ما لمحتهُ ميّ كي تسرعَ إلى التّرجمةِ، أتساءلُ وأعلم بغياب الجواب وديمومة انفتاح السّؤال، ميخائيل مَن رمقَ ما لَمْ ترمقهُ ميّ أم ميّ صاحبة رؤية عميقة تختلفُ من حيث العمق والنّفاذ عنهُ؟(1) أم كانت التّرجمةُ فعلًا أدنى من شأنِ مي ومكانتها المرموقة وشموليتها للُغاتٍ ومعرفة مُدهشة؟

توجدُ كُتيِّبات يختلطُ فيها النّثر بالشِّعر ويكادُ النّثرُ فيها يكون شِعرًا؛ نتيجة الإطناب بالصّور الخياليّة والكتابة المجازيّة وهذا الكُتيّب من ضمنِها، لذلك أفضى بميّ إلى ترجتمهِ وإرساله للقارئ العربيّ للاطّلاع على ما أبهرها وشكّلَ دهشةً وفائدةً لها، فلا لوم يحاوطُها إطلاقًا إذا نظرنا من هذا الجانب إلى المُترجمين، الجانب الذي يتفهمُ فرض الكتب ذاتها على المُترجم، وتكتبهُ لا يكتبها، غفلَ ميخائيلُ عنهُ فصدرَ نقدهُ غامضًا شائكًا، وقد تبدو الجملةُ ضيقةً لإكمال المعنى المُراد من قبله فاكتفى بما قالهُ بناءً على ضيق العبارة وانكماشها إن اتّسعت الرُّؤية، ممّن يغدو حصيفًا يصلُ إلى معناهُ المطلوب لا شكّ. 

راحَ بعضهم يُرجح من منظورٍ بعيدٍ رأيًّا يتمتمُ عن مُزوالةِ ميخائيل تمرينات تؤهّلهُ لإقامةِ فلسفة نقديّة قاصرة عن التّرجمةِ والمُترجمين آنذاك ولَمْ يفلح، وهُناك مَن يجنّحُ إلى التّفتيش وراء ميّ نتيجة الأمل في العثورِ على زلاتٍ متروكة، مُتاحة وتحتملُ النّقد، يبقى ميخائيل أعظم من تخميناتٍ في غايةِ الغرابة، لا ترتقي إلى مستوى التّخمين الحاذق المُتبصِّر حتّى.

لا خلافَ على أسلوبِ ميّ الرّشيق ورونقِ لُغتها، أخالني ناسيةً المكتوب المُترجم ومحتواه البسيط غير المُشرِق والشّائق بسبب ما استعملتهُ من ألفاظٍ زاهية، ولا أعلم سواء أكانَ المضمون فكرًا أو عاطفةً وفضفضة هو باهتٌ دارجٌ ومألوف فعلًا أم السّبب ترجمة ميّ ونقلها لما وردَّ في النصّ الأصليّ وتلاعبها الجليّ؟ أم مكس مولر أخفقَ هذهِ المرَّة وقدمَ شيئًا اعتياديًّا للقُرّاء؟ أم يقصدُ حفنةً من القُرّاء من دونَ سواهم أيّ الكتاب غير نافعٍ للجميعِ وليسَ للعامّةِ كافّةً؟.

مالت ميّ إلى الذّكريات والوصف الذي اكتنفتهُ الصّفحات الرّوائيّة فبدت كمُذكراتٍ شخصيّة، يصبُ الكاتبُ فيها جلّ أفراحه وأحزانه وهلوساته لا سيّما وصفه للكنيسةِ، البنايات، المُوسيقى والطّبيعة وارتباطها بالإنسان، إذ بدا كتيارٍ نهريّ جارٍ لا يتوقفُ أبدًا، أمرٌ مُحبّبٌ وعارٍ، يكشفُ النّفس البشريّة والعشق المُستحيل التي تبحثُ ميّ زيادة عنهُ وقد عاشت فكرتهُ وترنّمت بِها مع جبران؛ لذا أنا أعي لجوءها إلى التّرجمةِ وتجميلها للروايةِ لطالما عنيتُ بتسليطِ الضّوء على كُلِّ النّواحي والتّدقيق في خفاياها وباطنِها المُضمَر الأبعد من السّطحيات والمظاهر الخادعة قبلَ إطلاق الكلام المُبرّر والنّقد وبمعنى مُختزلٍ لا أتوقف عندَ شجرةٍ ما وأهمل

الغابة.

زبدة القول: رغمَ تبريري الصّائب الرّقيق لميّ إلّا أني لا أنكرُ تأييدي لعبارةِ ميخائيل، كانَ على ميّ زيادة أن تنشغلَ بما هو أفخم وأجود وأسحر ولا تصرف يومًا واحدًا على الرّكاكةِ، غير اللّافت واللّامع، تحسبُها ملاكَ الإبداع السّماويّ، النّور السّاطع والنّقاء الاستثنائيّ لا مناص. (2)

أمّا التّرجمة مُعقّدة كالغرباء، الّتي تجوزُ محبّتهم تارةً ولا تجوز تارةً أُخرى، إنّهُ جوهر مقولة ميخائيل، لا تجعل ريشكَ يتساقطُ، بدنكَ يذوي وقلمكَ يجفُ قبلَ فواتِ الآوان أيُّها المُبدعُ، ذو المَلَكَة العالميّة.

ومع هذا نمنحُ أوقاتًا أحيانًا لمَن يُماثلُ حالتنا وطباعنا، حيث تساورني كلمات الشّاعر الفرنسيّ بودلير إلى صديقهِ خلال قراءاتي وترجماتيّ على الدّوام، اخترقت ذاكرتي ومكثت، لتشرعَ تراودني بلا هربَ واختفاء، يقولُ فيها: “أتعرفُ لماذا ترجمتُ في صبرٍ ودأب ما كتبهُ ادجار ألان بو؟ لأنّهُ كانَ يشبهني، فَفي أوّل مرَّة تصفحتُ فيها كتابًا من كتبه رأيتُ فيهِ ما كانَ مُثار فتنتي وروعتي.. وجدتُ فيهِ كذلك الجمل التي كانت تراودُ أفكاري وكانَ لهُ السّبق إلى كتابتِها قبلي بعشرين عامًا”. إنَّ أخذَ أحدنا يقرأُ مكتوب بودلير يسوّغ لميّ ولغيرها الكثير من المُترجمين بغضِّ النّظر عن مدى سوء أدائهم التّرجميّ أو جماله، بصرفِ النّظر عن إهمالهم لإنتاجاتهم أو مُرافقة التّرجمة الفعليّة لها، بمُجرّدِ التّحديق في الجملةِ المُطولة نتركُ المُساءلاتُ الذّهنيّة المُكثفة المُربكة والخلط الفكريّ.

عندما يجدُ الإنسانُ شاعرًا يسكبُ قلبهُ -هو- على الورقِ، انتهى الأمر ووجب التّبرير والتّقديس أيضًا، متى ما تلقى نفسكَ عرقل السّفر المُعتاد وأمضي سابحًا عميقًا في البحرِ، مُتجولًا فوقَ سواحلهِ، وجالسًا على مقاعدٍ وبيديّكَ أصدافًا فضيّة، كأنَّها لؤلؤٌ مُضيءٌ، حينها نُسمّي ما جرى (استكشاف النّفس من جديدٍ عن طريقِ نفسٍ مُطابقة أو مُشابهة تمامًا للأنا، أيّ الاستعانة بأنا ثانية للإبحار في الأنا الأولى الشّخصيّة)، بطبيعةِ الحال نُبرهن بهذهِ الصّورة على عباراتٍ إيحائيَّة، سيميائيَّة تُصادفُنا فتمثلُ غموضًا وتيهًا فقط.

الهَوامِش:

(1) نحنُ الشُّعراء والفنّانون نرى ما لا يراهُ أحدٌ ونُنبّه على الذي لا يروهُ، وميّ زيادة وميخائيل نعيمة أبرز شُعراء عصرهم وأكثر عطاءً من الزّمان بلا جدال، الشُّعراء صنو الفلاسفة من حيث الحكمة والرُّؤية الثّاقبة بالتّأكيد.

(2) إتفاقي مع ميخائيل يفرضهُ الوقت والحقبة التي أعيشُها أيضًا، فلو كنتُ أعيشُ في زمن وعصر ميخائيل لرأيتُ العملَ المُترجم عن الألمانيّة أعجوبةً ونادرًا بالطّبع جراء التّخلف والجهل السّائد حينئذٍ أو أراهُ رديئًا كما ميخائيل لأنّ ميّ أكبرَ من كُلِّ شيءٍ وُمتنزهة عن الخطأ والبسيط - ولأنّ كما يُقال: غلطة الشّاطر بألف- لكن لقراءاتي العديدة الدّقيقة وخبرتي في مجال الأدب والكتابة دورًا -بجانبِ التّطور والوعي الحاصل- في تبريريّ أو إتفاقي اليوم.

لا بُدَّ أن نأخذَ الحقب المُعاشة قديمًا وحديثًا وتفاوت تركيبة الشّخصيّات في عينِ الحسبان كذلكَ.