من يصنع الأمثولات الإنسانيَّة؟

ثقافة 2023/01/26
...

  د. نادية هناوي 


ثمة عوامل تصنع من الإنسان كياناً مختلفاً ومتفرداً بميزات خاصة، قلما يماثله فيها شخص آخر. وليس هذا الاختلاف والتفرّد سوى نتيجة حتميّة لفرادة العوامل التي صنعت ذاك الكيان الإنساني وأسهمت في اختلافه. وإذا أردنا تعداد العوامل الصانعة للأشخاص المختلفين والمتفرّدين فلن تكون كثيرة لأنها في الحقيقة ليست سوى محفّزات خارجيّة لكوامن واعتمالات داخلية وفوران طاقة خاصة وقوية في كيان ذاك الإنسان المختلف والفريد. 

ويعد الرسل والأنبياء أمثولات كاملة على مثل هذه الكيانات الإنسانيّة التي تصنعها عوامل خارجيّة تستنهض فيها طاقاتها الداخلية المدخرة. وليس العلماء والمبدعون والمفكرون والزعماء الوطنيون سوى ورثة تلك الأمثولات الكاملة بما حباهم الله من عبقريّة وما هيَّأ لهم من عوامل وفرت الأجواء المناسبة لأن يكونوا حملة رسالة وفكر وعلم وأدب.  

وكما أن الأمثولة لا تكون من دون وجود عوامل تستنهض طاقتها المكنونة، فكذلك لا أمثولة من دون طاقة حقيقيّة تنتظر توفر العوامل المساعدة في الكشف عنها. ولا تقبل هذه المعادلة بطرفيها الخارجي والداخلي إضافة أطراف أخرى لأنّها مكتفية بهذين الطرفين طرديَّاً فكلما زاد أحدهما في قوته، تضاعفت قوة الطرف الآخر واشتدَّ أواره.

وإذا كانت العبقريّة أو الموهبة خصلة بايولوجيَّة وهبة ربانيَّة يودعها الله في أفراد من دون غيرهم، فإنَّ العوامل موجودة في البيئة ومكتسبة، بيد أن خصوصية تلقيها والتفاعل معها تخضع لحتميات ما يتوفر للأفراد من مستقبلات وما يملكونه من استجابات تعطيهم فرادة داخل مجتمعاتهم وربما تضفي عليهم هالات يُعرفون بها، مع أنهم ليسوا من خواص المجتمع ولا ساداته ولا من ذوي الامتيازات الاجتماعية الرفيعة والملكيات الضخمة والبارزة. وكم من العلماء والفلاسفة والمبدعين تميزوا كأمثولات ولم يكن واحد منهم من عِلِّيَّة قومه إنّما هي عوامل التنشئة والبيئة وكوامن الموهبة والعبقريّة التي تجعل صيتهم يذيع ويتخطى العصر الذي عاشوا فيه والمكان الذي أبدعوا فيه. ولو أردنا أن نغور في أعماق التاريخ بحثا عن أقدم أمثولة بشريّة صنعت عوامل الحياة من عبقريّة كيانها المختلف والفريد، فسنجد أن التفكر كأسلوب للعيش هو الصانع لها.

فالأمثولة في الأساس فكر، وكلّ فكر هو اعتمال ذهني بإزاء واقع مادي، وما بين الذهني والمادي مسافة غير مرئية يمتزج فيها التأمل العقلي بالوازع النفسي في التعامل مع وقائع الحياة والوجود وبأبعاد دالة على أن ذاك التعامل هو فكر أو تفكر أو تفكير، وممارسه هو المفكر أو الفيلسوف.

وليس يسيرا على المرء أن يجعل من نفسه أمثولة فكريَّة لأنَّ المسألة ليست رهنا بالتمنيات أو الرغبات أو الإرادات وإنما هي رهنٌ بالعوامل الصانعة وكوامن الطاقة المدّخرة. وكم ضاعت كوامن طاقات عند أفراد لم تتوفر لهم العوامل الملائمة للكشف عنها، وكم من العوامل كانت متهيئة لأفراد غير أن ما امتلكوه من طاقة متواضعة لم تكن كافية لأن تتفاعل مع تلك العوامل فتتأمثل من خلالها ذواتهم. 

وبسبب هذه التعادليَّة، التي قلما تصدف وتنجح، لا يشهد العصر الواحد أو ربما حقبة من حقبه إلا بضع أمثولات رساليّة كعلماء وزعماء وأدباء ومفكرين وفنانين وربما يتجاوز العدد أصابع اليد في أكثر تقدير. وعلى قلة الأمثولات فإنَّ الأمم تتفاخر بما لديها منها. وتتفاوت أهمية كل أمثولة رساليَّة أو إبداعيَّة أو فكريَّة، لكنّها بالمجموع تصب في صالح الفكر البشري كدلائل على ما لعقل الإنسان من مقدرة على التجدد والابتكار.

وعلى مرِّ التاريخ تحظى مثل هذه الامثولات بالاهتمام والتقدير، ويُتخذ مما تركه من إرث علمي وإبداعي وسِيري، رمزاً للمدارسة والبحث أو منبراً للاقتداء والهداية أو مشعلاً للنهوض والتغيير.

وفي تاريخنا العربي الإسلامي أمثولات صنعت حضارات وبنت أمجاداً وأولها وأشرفها أمثولة نبينا الكريم خاتم النبيين والمرسلين بمناقبه الشريفة.. ومن بعده يأتي ورثته من العلماء والأدباء أصحاب الإبداع والفكر. وإذا كان صعباً تعداد هذه الامثولات التي أنجبتها الحضارة العربية الإسلامية إذ يحتاج إحصاؤها رصداً خاصاً كتعبير عما كانته تلك الحضارة من علو ومجد، فإنّ من اليسير في عصرنا الحديث تعداد أمثولاتنا العلميّة والإبداعيّة والفكريّة. وليس هذا غريبا فلقد مرت أمتنا بانتكاسات طويلة الأمد بعد أفول حضارتها وغياب مشاعل التنوير العربي غبَّ عصور الظلام والتأخر.

وعلى الرغم من أنَّ النهضة الأدبيّة أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين أسهمت في إحياء بعض أمجاد حضارتنا والبناء عليها والتحرر من التركة الاستعمارية والثورة على مظاهر التراجع والتخلف، فإنَّ الارتقاء في درجات العلم والإبداع يظل عدديا ونوعيا محصورا ومحددا في نفر من الخواص الذين تدرّجوا في سُلّم العلم واحترفوا ميادين وتخصصات بعينها. فكان أن عُرفت في مجال الأدب والنقد أمثولات إبداعيّة وكل أمثولة ظهرت في حقبة بعينها وعرفت في مجال محدد كاللغة أو الاجتماع أو الفكر الإسلامي أو التربيّة. ويظل أمر الندرة في الامثولات طبيعيا تفرضه وتحتمه مجموعة عوامل وظروف خاصة بمجتمعاتنا العربية وما في ذواتنا العربية من طاقات حقيقيّة في الفكر والعلم هيأت للنهوض الإبداعي والعلمي.

واذا كان الغالب الجنوسي على الأمثولات أنّها ذكوريَّة، فإنَّ ذلك لا يعني فقر النسويَّة، بل لها طاقاتها الابداعيّة والفكريّة غير أن أمر الكشف عنها او الاعتداد بها والتركيز على عطاءاتها يظل محكوما بمركزيّة المنظومات الرسميّة التي هي في العموم ذكوريّة. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ في التاريخ البشري أمثولات كثيرة لنساء أدينَ أدواراً مصيريّة غيّرت وجه التاريخ أو أمتلكنَ عبقريّات فكريّة وإبداعيّة جعلت لهنَّ منزلة دينيّة أو دنيويّة فاعلة ومؤثرة كقديسات أو بطلات أو حاكمات أو فيلسوفات أو مبدعات. 

ولا تعني مركزيّة المنظومة الذكوريّة أنَّ المرأة كأمثولة مفكرة ومبدعة هي وحدها التي يكون أمر تهميشها وتناسي جهودها وعدم الاكتراث بها محتملاً أو حاصلاً داخل مجتمعاتها البطريريكية، بل الرجل كأمثولة يمكن أيضا أن يلحقه التهميش والتناسي. والأسباب كثيرة؛ منها عدم مجاراته التيار العام المجتمعي في مساراته وتوجهاته مفكرا بشكل مختلف من أجل تقويم ذاك التيار وإصلاحه. ومنها أن تكون المنظومة المجتمعية منشغلة بتحديات مصيرية وأزمات حياتية كالحروب أو المجاعات أو الإبادات مما يجعلها بعيدة عن إيلاء مسائل الفكر والابداع بالاً. وتزخر مجتمعات العالم الثالث والفقير بأمثلة كثيرة على مثل هذه المنظومة التي لا تولي اهتماماً لأمثولاتها الفكرية والابداعية سوى تلك التي هي لها عطاء يجري في صالح أغراضها وسياقات نظامها العام بينما تغض الطرف عن كثير من الأمثولات أما لأنها تعارض تلك السياقات أو لأنها نسويَّة. 

وتتجلى في عالمنا العربي مثل هذه التوجهات واضحة، ولعل الإحصاء سيكون بسيطا وممكنا للأمثولات التي حظي منجزها الفكري والإبداعي بالاهتمام والتعريف بينما سيطول أمر أحصاء أمثولات قدمت للفكر العربي وثقافته منجزات وعطاءات ولكن بقيت أسماؤها في الظل لعدم تسليط أضواء العناية والاهتمام عليها. ومع ذلك يبقى ما تركته تلك الأمثولات المغيّبة من منجز أصيل وعطاء ثر حائلا دون تلاشي أسمائها فتظل حاضرة أينما كان للميدان الذي برزت فيه ذكر وحضور.