تخوم المعنى

ثقافة 2023/01/29
...

 وجدان عبدالعزيز

لذة القراءة تظهر مرتدية جلباب الرضى، حينما تجد ضالتها في الكتابة المقروءة والمستحقة للقراءة، كونها فتحت نوافذ الإطلالة على المتخفي خلف ستائر ما هو داخل في منطقة التأويل، وهذا يعطي المتلقي حرية التعبير واجتراح المعاني المتخفية في بواطن النص، فكانت أمامي اثنين من دواوين الشاعر مهدي القريشي (تجاعيد الماء)، و(أحيانا وربّما)، ذات النصوص المتشابكة والمتفاعلة، بل والمتصاعدة للبحث عن معنى نائم بين تلك النصوص، وفترة النوم هذه محكومة بجرس التنبيه والايقاظ لصاحبته القراءة، ورغم أن جرس التبيه مرهون بفطنة القارئ وقدرته على الإيغال باعماق النصوص لجمع لآلئ المعنى التي أرادها كل نص من تلك النصوص.

أو القريب من معنى المعنى، فكل مجموعة تحمل رؤى الشاعر وتصوراته فيما يحيطه من أشياء، كائنة في تأملاته عن العالم بحيث تدفع بالمتلقي الى اصدار أحكامه، ابتداءً من العتبة الأولى، العنونة ومن ثم النصوص أسفلها، وهكذا كنت طوال قراءتي لدواوين القريشي كنت أبحث عن المعاني، فوجدته في الديوان (تجاعيد الماء) يصب لعناته، وانفعالاته من البداية (على اللاهثين صوب إغواءات الفرجة/ على مروّجي «حكمة» نهاية سعادتنا: الموت)، كحالة من التأمل في ماهو كوني، بسبب أنَّ النص الأول (القلق في محنته) يبدو حاملاً هروب الشاعر من الواقع الذي لايهديه سعادته المبتغاة، فبات يؤنّب باللعن مثل قوله: (اللعنة.../ عليَّ لعدم إجادتي أبجديّة هذا الزمن/ فاندحاري كحماقاتي بليغ).

أي أنّه اتجه بالتأنيب لذاته، التي باتت لاتفهم ذلك المحيط، الذي يحاصره، لذا فهو يلعن الزمن، والظاهر أن سؤال الحداثة يضغط على الشاعر، كي يقولب تجربته الذاتية في تعابير نثرية مكثفة، لكن ضاغط الجماعة يسايره في هذا الاتجاه، يقول الناقد عبداللطيف الوراري: وما من شكّ في أنّ نوع المصادر الكتابيّة الجديدة التي صار شعر الحداثة يغترف منها ويُدْمنها قد أسهم في تكثيف المعنى إلى درجة التّعقيد والغموض. إنّنا أمام إشكاليّة الدلالة، ومن خواصّها:

ـ تكسير الدّلالة الواحدة، وتفجير دلالاتٍ جديدة.

ـ إغناء اللّغة بأشكال من المفارقة والتّجريد والتّرميز والتناصّ.

ـ توسيع مدلول الصُّورة بوصفها طاقة احتماليّة تتغذّى من بلاغة التكثيف والانزياح.

ـ تشظّي البناء النصّي الذي لا يبين إلّا عن التشتُّت والانتشار والتشذُّر بلا رابطٍ منطقيّ.

وهذه الخواصّ قد نقلت حركة انبثاق المعنى من دائرة الدّلالة المعجميّة إلى دائرة الدلالة السياقيّة المفتوحة على إمكاناتٍ مهمّة لا تعتقل أجروميّة المعنى المتحرك بقيد معجميّ أو إيقاعي أو تركيبي. ففي نص (القلق في محنته) من ديوان تجاعيد الماء، يقول: (ولفرطِ خشيتي من الطمأنينةِ/ فرشتُ الشوارعَ قصصاً محنّطةً بالسوادْ/ تستأنسُ في قراءةِ أقدام القلق/ وهي تنبشُ تاريخَ الغبار). 

فهنا يعيش حالات نقمة تارة على ذاته وأخرى على الواقع والتاريخ الذي شابه الكثير من التلفيق وصار يمجه الشاعر في الكثير من الأحيان، ويتساءل مع الطبيعة والفصول، قائلا: (لماذا الربيعُ راكبٌ دراجتهُ الهوائيّة/ يلوّح بمناديلهِ الملوّنة/ لشتائِنا/ أن يغمسَ أصابعهُ في محبرةِ الضوءِ؟/ ويوشمُ شرارَ محنتهِ على جسدي/ فأضطرُ الى تجديدِ وضوئي/ بطقوسِ إيروسيَّةٍ). 

ومن حنق الشاعر على الواقع صار وضوؤه أن ينغمس في عوالم جنسيّة ماديّة، ولو كان مطمئنا من الواقع لراح يتوضأ بعوالم جماليّة ليست مادية ليُرِيَ القارئ أو المتلقي جماليّة تعاقب الفصول، والتعاقب يرفض القبح ويتعالى على السكون المورث لحالة الموت البطيء، فالشاعر يمتلك أدوات الجمال، التي تحمل صراعه مع الطبيعة وفصولها، كون الجمال يكمن ليس في الشكل الخارجي، الذي يحصل أنّنا رأينا الشخص وشعرنا بجماله الداخلي، وهو جمال روحه، وهذا هو الأهم، فالجمال الخارجي هو ما يكمّل الجمال الداخلي وليس العكس، وحنق الشاعر يكمن في النظرة الجماليّة القاصرة، وقلقه يتصاعد حول الأحكام القاصرة المبتسرة، إذ قال الشاعر في نص آخر من الديوان نفسه: (الغراف يقسم المدينة كالفسطاط ويحضنها كفمٍ يرضع ثدياً! سُمّي غرافاً لأنّه يغرف من بطنه ماء للعطشى لحظة يجف التين ويخرس البلبل وتميل المآذن نحو وصايا الأزمنة الجافة)، وكما قلت يصف الشاعر الطبيعة ويعلن من خلال ذلك الوصف انفعاله على الواقع والتاريخ بقوله: (وتميل المآذن نحو وصايا الأزمنة الجافة)، وقد يريد الشاعر التوغل في القراءة العموديّة للتاريخ، لاعنا الوصايا الجاهزة المقتبسة من تواريخ العنعنة، أي عن فلان عن ابن فلان، ومن ثم عدم إثبات ثمرة المعنى، كما في قوله: (للقشلة رائحة العثمانيين كجثة تتدلّى من خيط الريح تجادل ما تبقى من العِرق الضائع/ في القشلة خيل وحمير وجندرمة.. تسيل شهوة الخيل للانعتاق حتى تلامس جذور النخيل.. الحمير تنصب فخاخاً للجندرمة فتمازحهم بقوائمها الخلفيّة!!/ الجندرمة يحاورون، في وَلَهٍ، صورة الباب المتثائب. تمارس في القشلة عملية الاستمناء القيصريّة.. لا قرابة ما بين القيصريّة والقيصر خارج عقل السلطان)، والشاعر ينشد هنا الجمال المتحرّك مع حركة التاريخ صعوداً لخلق جمال جماعي مع رؤى المتنبي، أو غيره من الشعراء.وكأنّي به يقول علينا أن نبحث عن الخلود المبجل وليس أن نموت ونحن نجتر الوصايا الجافة.. والحرص كل الحرص أن نجعل الجمال الشكلي يُعانق الجمال الروحي، فالناس يومًا عن يوم يزدادون وعيًا، ويُصبح لديهم يقين أكبر بأنَّ الجمال الخارجي لا يكفي كي يكون الإنسان جميلًا، ولا بدَّ من الاتصاف بالروح الفاضلة والجميلة والمنطلقة على الحياة، لأنَّ جمال الشكل من دون روحٍ جميلة: يُشبه زهرة بلا عطر، فإنَّ الفلاسفة والأدباء امتدحوا جمال الشكل وأعلنوا شأنه واعتبروه أرفع مكانةً من جمال الشكل فقط، فجمال الشكل قد يفتقر إلى المقومات التي تجعله أجمل، لكن جمال الروح لا يفتقر لأي مقومات.. ويعمّق الشاعر رؤيته الرافضة في ديوانه الثاني (أحيانا وربما) الصادر عن دار الشؤون العامة بقوله من نص «خفة الهواء».

إذن الشاعر يبحث عن الحياة الجميلة، فالموت نهاية لا بدَّ منها، وعلى الإنسان أن يعيش تفاصيل الجمال لا أن يبقى في خانة البحث عمّن يثير الاختلاف والحنق والكره، فإذا نظرت بعين التفاؤل إلى الوجود، لرأيت الجمال شائعاً في كل ذراته، فـ (رغم اكتظاظ المقبرة بالأموات/ إلا أن جميعهم مقتنعون/ بالإقامةِ أو الترحال/ فلا مطبات تخلخل الوعي/ ولا عطلات تؤجل الأحلام)، هكذا تتجلى رؤية الشاعر القريشي في قضية الحياة والموت.. فـ (الحب الذي لا يهتم إلا بالجمال الجسدي ليس حباً حقيقياً،  والحكمة هي ملخص الماضي، والجمال هو وعد المستقبل)، وفي هذا السياق يقول الدكتور سعد التميمي: (لما كان النص هـو معنى وليس حامـلا لـه، ولما كان المعنى في القصيـدة يتشـكل بطريقـة مغايـرة لما هـو مألوف خارج الشعر، كان على الشاعر أن يستعين بعدد من الآليات والتقنيات والأساليب الخاصة لصياغة هذا المعنى بالشـكل الذي يؤثر في المتلقي ليتجسـد فعل الاستجابة)، ولهذا كان الشاعر القريشي، قد عاش حالات انفعالات كثيرة لايصال المعنى، لكن المعنى بقيَ متخفيا بين نصوصه، وبواسطة التأويل قد توصلنا بسفينة إدراك الى تخوم

المعنى.