إدغار موران.. من حربٍ إلى حرب

ثقافة 2023/01/29
...

  ترجمة: كامل عويد العامري

قرر  إدغار موران، عالم الاجتماع والفيلسوف، وهو أحد أعظم المفكرين في عصرنا، في عمر ناهز الـ 101، كتابة هذا النص كرد فعل على الحرب في أوكرانيا، يذكره هذا الصراع بذكريات الحرب العالمية الثانية، والسمات المشتركة في كل الحروب التي عرفها: حروب الجزائر ويوغوسلافيا والعراق. نشر هذا النص حتى تؤدي سنوات التاريخ هذه إلى مواجهة الحاضر وتجنب حرب عالمية جديدة. من حرب إلى حرب، هستيريا الحرب، أكاذيب الحرب، الجاسوس، تجريم شعب العدو، راديكالية الصراعات، المفاجآت غير المتوقعة، الخطأ والوهم، السياق، الديالكتيك - العلاقات الأمريكية الروسية، أوكرانيا، الحرب، من أجل السلام، تلك هي مفاتيح كتاب إدغار موران الجديد الذي صدر في السادس من كانون الثاني  2023، عن دار Aube الفرنسيّة.

بدءاً بقول موران: “أعادت الحرب في أوكرانيا في داخلي ذكريات الحرب العالمية الثانية الرهيبة.

الدمار الهائل، والمدن المخربة والمدمرة، وهياكل المباني المهدمة، وأعداد القتلى من العسكريين والمدنيين التي لا حصر لها، وتدفق اللاجئين... لقد عشت جرائم حرب، والمانوية بوصفها المطلق، والدعايات الكاذبة، وعادت إلى ذاكرتي سمات كل الحروب المشتركة  التي عرفتها، حرب الجزائر، حرب يوغوسلافيا، حروب العراق.

لقد كتبت هذا النص بحيث تكون هذه الدروس التي يمكن أن تساعدنا على مواجهة الحاضر، وفهم الحاجة الملحة للعمل من أجل السلام، وتجنب أسوأ مأساة لحرب عالمية جديدة .»

كان أول قصف جوي إرهابي في أوروبا هو هجوم القوات الجوية الألمانية الذي قضى على روتردام في مايو 1940.

تبع ذلك قصف لندن في صيف عام 1940، والتي أنسحبت بعد مقاومة سلاح الجو الملكي البطوليَّة.

ثم كان هناك قصف الحلفاء للمدن الألمانيّة.

بينما كنت مرتبطًا بهيئة أركان الجيش الأول بقيادة لاتر دي تاسيني، ذهبت إلى مدينة بفورتسهايم الألمانية بعد ذلك بوقت قصير وشعرت بالرعب الذي سرعان ما كبحته، قائلاً لنفسي: «هذه هي الحرب».

في الواقع، في فبراير 1945، وقبل ثلاثة أشهر من استسلام ألمانيا المهزومة بالفعل، جرى تدمير بلدة بفورتسهايم الصغيرة بالكامل بغارة شنتها ثلاثمئة وسبعة وستين قاذفة من سلاح الجو الملكي.

فهدمت ثلاثة وثمانين بالمئة من المباني، وقتل فيها ثلث سكانها، أو سبعة عشر ألفًا من المدنيين. فضلا عن العديد من الجرحى.

ثم شهدت كارلسروه ومانهايم، اللتان دمّرهما القصف الأمريكي تمامًا، ودُمرت هامبورغ بالطريقة نفسها، وأخيراً، برلين، التي كنت أتنقل في كل مكان فيها في يونيو 1945 بين الأنقاض التي تراكمت بسبب القصف الأمريكي والمدفعية السوفيتية الهائلة. 

ثم علمت أنّه في 13 و 14 فبراير من العام نفسه، قامت ألف وثلاثمئة قاذفة بريطانية وأمريكية بتدمير مدينة درسدن الفنية منزوعة السلاح وإلقاء ألفين وأربعمئة وثلاثين طنًا من القنابل الحارقة أدت، وفقًا لتقدير الصليب الأحمر، إلى أكثر من ثلاثمئة ألف قتيل.

كل هذا ترك لديَّ انطباعًا قويًا، لكن رعب النازية ورجاساتها في البلدان المحتلة، وخاصة في الاتحاد السوفيتي، كان يخفي عنا نحن المقاتلين المناهضين للنازية، مجازر الضربات المرعبة  الإرهابية على السكان المدنيين، والتي كانت تدمر المدن بالكامل.

 فضلا عن  تأثيرها على النساء والأطفال وكبار السن أكثر مما كان على المحاربين. 

دعونا نضيف أنه خلال عمليات إنزال الحلفاء في نورماندي، كان 60 ٪ من القتلى المدنيين النورمانديين بسبب قصف المحررين.

بعد ذلك بوقت طويل - منذ غزو أوكرانيا - أدركت وحشية عمليات القصف التي نُفِّذت باسم الحضارة ضد الهمجية النازية.

في الوقت الذي لم تشهد فيه الأجيال الحرب مرعوبة بحق من الصور التلفزيونية التي تصور المنازل المدمرة والقتلى من المدنيين في أوكرانيا، أتذكر الدمار الهائل والمجازر التي ارتكتبها قواتنا، والقوات الأمريكية بخاصة.

أدانت محكمة نورمبرغ (1945 - 1946) النزعة الهتلرية وأرست المفهوم القانوني الجديد لـ “جريمة الحرب”.

لقد بقيَ مفهوم جريمة الحرب غامضا (انتهاكات القانون الإنساني الدولي - المنصوص عليها في قانون المعاهدات أو القانون العرفي - التي يتحمّل مؤلفوها مسؤولية جنائية شخصية بموجب القانون الدولي)، وقد أوضح ديفيد فان ريبروك مفهوم جريمة الحرب في كتابه ثورة  Revolusi، وفقًا لثلاثة معايير: عرضية، وبنيوية، ونظامية.

(ديفيد فان ريبروك، ريفولوسي. إندونيسيا وولادة العالم الحديث، ترجمة إيزابيل روسلين عن الهولندية البلجيكية بقلم إيزابيل روسلين، آرل، أكتس سود، 2022 [2020].)

وجرائم الحرب العرضية هي الإصابات الناجمة عن التعذيب والقتل التي تُرتكب من دون تعليمات صادرة عن قيادة من قبل أفراد أو جماعات عسكريَّة.

وجرائم الحرب البنيوية هي الجرائم والعنف الذي يقرره الضباط أو الجنرالات.

جرائم الحرب النظاميَّة - المنهجيَّة - هي جزءٌ من الستراتيجية العسكرية لحكومة في حالة حرب، والحكومة هي صانعة القرار الأولي.

كل هذه الأنواع من الجرائم تشمل مدنيين أو جنوداً غير مسلحين.

من الواضح أنّه خلال الحرب العالمية الثانية، كانت جرائم الحرب التي ارتكبتها ألمانيا النازيّة ضد اليهود والغجر والسكان المدنيين المحتجزين كرهائن وإطلاق النار عليهم جرائم حرب ممنهجة وهيكليّة وعرضيّة، وتشكل الجريمة الأساسيّة والرئيسة في هذه الحرب.

 لكن لا يسعنا إلّا أن نفكر في أن القصف المكثف الذي طال المدن الألمانية وسكانها المدنيين من دون هدف عسكري محدد يشكل جرائم حرب ممنهجة.

من المسلم به أنّ النازية كانت مجرمة بطبيعتها العنصرية والاستبدادية - بما في ذلك تجاه خصومها والشعب الألماني نفسه - ولم يكن هذا هو الحال مع ديمقراطيات الحلفاء، على الرغم من ارتكابها خلال غزواتهم الاستعمارية والقمع ضد مستعمريهم، والتي يجب، أن تسمى لاحقًا بـ «جرائم 

حرب».

إذا حُكم على النازية وأدينت على نحو عادل في محاكمة نورمبرغ، فإنّ هذا الإجراء كان يخفي بحكم طبيعة الحال جرائم الستالينية، وهذا خاصة وأن أحد المدعين العامين في هذه المحكمة كان أندريه فيشينسكي، الذي اشتهر بأنّه كان المدعي العام لمحاكمات موسكو التي نظمها جوزيف ستالين 1935 – 1937، الذي لم يحكم بالموت على ضحايا أبرياء وحسب، بل باتهامهم اتهامات باطلة بالخيانة 

والتجسس.

كان اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية نظامًا منسوجًا من الأكاذيب ومعسكرات الاعتقال القسري (غولاغ) والقتل، لكنّه أسهم أولاً في تحرير أوروبا من النازية؛ هذا هو السبب في أن فاسيلي غروسمان قال عن حق إنّ ستالينغراد كانت «أعظم انتصار وأكبر هزيمة للبشريّة» [فاسيلي غروسمان، ( حياة ومصير، ترجمه من الروسية إلى الفرنسية أليكسيس بيرلوفيتش وآن كولدفي- فوكارد، لوزان، لاج دوم، 1980 [اكتمل في عام 1962].

ومثلما أخفينا بربريَّة القصف الأمريكي، أخفينا بربريَّة الستالينية: فظاعة المعسكرات الهتلريَّة التي اكتشفناها على الفور منعتنا من رؤية أو جعلتنا نتجاهل ما حدث في معسكرات العمل القسري السوفيتية.

لقد خضنا حربًا ضد نظام وضيع، لكنني كنت من بين أولئك الذين اعتقدوا أن الجرائم الستالينية كانت شيئًا من الماضي وأن الاتحاد السوفيتي يتجه نحو مستقبل مشرق.

نحن، المتحمسون لانتصارات اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، نسينا كل ما كان يعنيه الاتفاق النازي السوفياتي لعام 1939، والذي أدى إلى تمزيق بولندا.

لقد استغرق الأمر سنوات وعقودًا حتى أصبح واضحًا أنه بغض النظر عن مدى عدالة مقاومة النازيّة، فإنّ حرب الخير حملت الشر في داخلها.

إذا كان هناك قبل كل شيء، المذابح العنصرية النازية لملايين اليهود، والعديد من الجرائم الأخرى، فقد كان هناك أيضًا إبادة غير منظورة، من ارتفاع ثلاثة آلاف متر، لمئات الآلاف من المدنيين على يد قوات الحلفاء الجوية.

لقد أُرتكبت فظائع لا حصر لها خلال الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك ما ارتكبه الحلفاء: لقد أُرتكب عدد لا يحصى من عمليات اغتصاب المدنيين وقتلهم، حتى من قبل قوة التدخل السريع للجنرال جوان في إيطاليا.

(أتذكر أنه بعد انتصارنا، دعاني صديقي جول للقيام بـ «ضربات قاسية» معه في منطقة احتلالنا ... وهو ما رفضته).

أخيرًا، كيف لا نتذكر أن فرنسا، التي تحررت للتو من القمع، قمعت بالدماء تطلع الشعب الجزائري إلى الحرية، بمجازر سطيف التي تسببت في مقتل 45 ألفًا من مايو، آيار إلى يونيو، حزيران 1945!