فيلم {باردو}.. إيناريتو ضد إيناريتو

ثقافة 2023/01/30
...

 باسم سليمان


يعود المخرج أليخاندرو غونزاليز إيناريتو إلى المكسيك بعد غياب دام أكثر من عشرين عامًا، من خلال فيلم "باردو(وقائع زائفة لحفنة من الحقائق)  " Bardo, False Chronicle of a Handful of Truths). نال إيناريتو أثناء فترة غيابه عن المكسيك، جائزتي أوسكارعن فيلميه:   Birdmanالعام 2014 و The Revenant العام 2015، فهل حان الوقت لتقديم سيرة ذاتية فيلمية، يناقش فيها الوطن والهجرة، والعلاقة المحتدمة تاريخيًا بين المكسيك والولايات المتحدة الأميركية، والأسرة والهوية، والحب والموت من خلاله شخصيًا؟.   

  يعرض الفيلم قصة الصحفي المكسيكي ومخرج الأفلام الوثائقية سيلفيريو جاما- دانييل خيمينس كاتشو- الذي يرجع إلى المكسيك كي يكرّم عن فيلم، له عنوان فيلم إيناريتو نفسه! لم يخاتل إيناريتو كثيرًا، فالشبه بين شخصيته الحقيقية، وشخصية سيلفيريو المتخيلة شبه محسوم. كان إيناريتو عبر أفلامه، يستند دومًا على ثنائيات تضادية يجلو بها زيف انعدام ائتلافها عبر الخيال. فالخيال لدى إيناريتو يعتبر كحاسة، لا تختلف عن النظر واللمس، فعبره يتم اكتشاف علاقات الواقع التي لا يمكن الإحاطة بها من دون الخيال.                                                                                         وتعني كلمة "باردو" بالبوذية التيبتية، الحالة البرزخية التي يعيشها الإنسان في الغيبوبة التي تسبق موته. هذه الازدواجية التي تعنيها كلمة "باردو" تقدّم انعكاسًا لحياة سيلفيريو/إيناريتو. فهو من جهة مواطن أميركي يجادل بعنف موظف المطار عن أحقيته بأن يقول عن أميركا، إنها وطنه، رغم المفارقة بأنّ الموظف، هو الآخر، ليس من أصول أميركية. ومن جهة أخرى يدخل مع ابنه في نقاش حادٍ، لأن الابن قد سئم من ازدواجية أبيه، فمن ناحية يدافع سيلفيريو عن المكسيك، ويطلب من ابنه أن يتكلّم المكسيكية مادام في بلده الأم. ومن ناحية ثانية لا يرى المكسيك بلدًا صالحًا للحياة!. 

إنّ التناقضات التي يحياها سيلفيريو تتبدّى من أول مشهد في الفيلم، إذ نرى ظل رجل يجري في صحراء، ليكتسب العزم كي يطير. وما إن يحلق الظل عن الأرض حتى يعاود الهبوط. ليتبعه مشهد ولادة ابنه ماتيو الذي همس للطبيب بعد خروجه من بطن أمه بأن يعيده إليه، فالعالم الذي جاء إليه قاسٍ جدًا. 

كان سيلفيريو متّهمًا من قبل المجتمع بخيانة مكسيكيته لصالح أميركا، وهنا يأتي السؤال: من يحدّد الانتماء؟ الذي تأتي إجابته عبر نقاش بين سيلفيريو وهيرنان كورتيس القائد الإسباني الذي قوض مملكة الأزتيك عام 1521 ولولاه لم تكن هناك من مكسيك. كان كورتيس يجلس على هرم من الأجساد البشرية، وهناك أخبره سيلفيريو، أنه قائد وحشي، وأنّه مكروه في إسبانيا والمكسيك، فيرد عليه كورتيس، بأنّه لو لم يكن موجودًا لم يكن هناك من مكسيك. وبالتالي ليس من سيلفيريو، ولا قضية الانتماء الشائكة التي يقع تحت تبعاتها.                                                                                 

ما بين الواقع والخيال على جسر من الرموز تمضي سردية إيناريتو السينمائية، لنكتشف بأنّ سيلفيريو كان قد أصيب بجلطة دماغية، تركته فاقدًا للوعي، وهو عائد في الميترو يحمل كيسًا فيه أسماك السلمندر لابنه تعويضًا له عن تلك الأسماك التي ماتت في حقيبته، عندما هاجروا إلى أميركا. حيث تأتي دلالة سمك السلمندر من قدرته على تجديد أعضائه إن قطعت.       

 إيناريتو أم سيلفيريو؟ 

لقد ارتدى إيناريتو قناع سيلفيريو حتى لا يقدم حياته بشكل واقعي مبتذل؟ والاعتراف بأنّ محاولته بجلب سمك السلمندر باءت بالفشل، فلا إمكانية لإعادة إنماء ووصل ما قطع من حياته، وما ترتب عليه من تناقضات لا حلّ لها، لكن من الممكن فهمها.

هذه المفارقات المتضادة، التي تقوم عليها أكثر مشهديات الفيلم، نستطيع أن نستوعب أحد جوانبها كهجوم مضاد من قبل إيناريتو تجاه النقّاد والمشاهدين، سواء في بلد المهجر/ أميركا، أو في بلده الأم/ المكسيك، فهناك من سيصنفه مبدعًا أو مدعيّا. وهناك من سيصنفه مرائياً، أو مرآة للواقع، وهو يريد أن يقول، بأنّه لا هذا، ولا ذاك، فالفنّ ليس كالسياسة والدين حتى يكون تأثيره شموليّاً بإيجابياته وسلبياته، فما بين "أنا" الفنان وإنتاجه، وضمنًا حياته الشخصية، هناك الكثير من الحدود يجب أن تُقطع بشكل قانوني، أوغير قانوني، كأن يأتي اتصالٌ يخبر جماعة المهاجرين، بأنّ مريم العذراء، قد ظهرت لمن سبقهم، وهي تبارك مسيرهم نحو الحدود!. 

بين "الباردو" والسيرة الذاتية لإيناريتو علاقة زائفة، فهو لا يقدّم بالمعنى الحقيقي سيرة ذاتية والتي عادة ما تكتب على حواف نهايات العمر، بل يريد القول، بأنّ السير الذاتية تتعدّد، حتى من قبل صاحبها، كما التاريخ حسب من يكتبه، والحدود وفقاً لمن يضعها، والانتماء على هوى القناعة، والهوية ليست إلا قضية إدارية، والوطن مجرد جذر مخاتل، والمهجر هروب مفضوح، فلا شيء نهائياً في تلك القيم، فالحقائق زائفة بقدر ما تدعي واقعيتها. 

فيلم "باردو"، من إخراج أليخاندرو غونزاليز إيناريتو، وتصوير داريوس خوندجي، وسيناريو إيناريتو و نيكولاس جياكوبو.