سيباستيان شريدر.. تفكيكٌ لضوء عديم الفائدة

ثقافة 2023/01/31
...

 ترجمة: رامية منصور


عنوان يفسح المجال واسعًا للتكهنات مثلما هي أعمال الألماني سيباستيان شريدر المليئة بشخصيات بشريَّة في حالة ملتبسة تبدو وكأنَّها جزءٌ من الديكور، كما لو كان الفنان قد شكّلها في تركيبة سورياليَّة.. بمزاجيَّة تنفتح على الدلالات صعبة الاستيعاب.. تبعث شخوصه بحركاتها غير المتزنة على الحزن، حزن من نوع ما يتناسب مع عصرنا هذا، يبعث فيك الإحساس باللا جدوى من كلِّ شيء.

يلعب الضوء دوراً مهماً في أعمال شريدر التي يلفها غموض كبير ومثير للدهشة حيث يبدو أن الستائر البيضاء تطفو في تلك المساحات غير المحددة ذات الخلفيات الداكنة. 

والنتيجة هي كثافة خارقة تمنح تأثيرًا مباشرًا للغاية على المشاهد في مسرحية من الضوء والظل.

إنَّ استخدام هذه الإضاءة الموضعيَّة التي تخلق تأثيرًا من الكونتراست الضوئي يعود بنا إلى عصر النهضة والرسم الباروكي، إذ يفكك الضوء القاسي شكل الكائن عند بناء أجزائه.. يؤدي توظيف هذا النوع من الضوء لتسليط الانتباه على أشياء يُراد لها أن تبرز وأشياء يُراد لها أن تتوارى.

يكشف ظهور الشظايا هنا وهناك عن فقدان التماسك النفسي للفرد والعالم ككل.

يرسم سيباستيان وفق بنية مجرّدة؛ لذا لا تجد المساحة التصويريّة الكلاسيكيّة في لوحاته التي تشبه في تركيبها أعمال الفنان الهولندي التجريدي "بيت موندريان".

هناك أسطح يتم فيها تثبيت الأشكال وهناك هياكل وأنسجة وتباينات وإيقاعات، كما لو كانت تؤلف أغنية بأسلوبه هو نتيجة لعملية طويلة ومستمرة، يغذّيها شوط طويل من التجريب. 

"كانت مواجهة الآراء المخالفة مسألة مهمة.

عندما يتم التشكيك في عمل المرء، يدفعه ذلك إلى إعادة التفكير فيه، في ذات الوقت من المهم عدم تجاهل القيم الذاتية للفنان.."، يقول سيباستيان شريدر: "أحيانا آمل أن تجيب لوحاتي عن تلك التساؤلات، وانتظر منها أن تهمس سرَّ العالم في أذني.

حتى الآن هي صامتة، لذلك لا بدَّ لي من مواصلة الرسم".

نرى شريدر متردّدًا بعض الشيء تجاه الرؤية المفاهيميَّة.

"هنالك فنان يجلس مع نفسه، يسرح مع التفكير في شيء ما، ثم يخلق عملًا فنيّا.. ينظر إلى ذلك على أنّها عملية إيجابية، لكنه في رأيي يبالغ في تقدير العقل البشري.

بالنسبة لي، الفن ليس كدحًا ثقيلاً في محتواه.."، يقول سيباستيان: "هدفي ليس توضيح أفكاري. إنّني أسعى لخلق شيء غير معروف لنفسي ولا ينحصر داخل حدود تفكيري. يجب أن أتبع حدسي وأعطي مساحة للتفاعل بين السيطرة وفقدان السيطرة. لا يوجد يقين، في رأيي، هذا هو أيضًا جمال الفن حيث يمكن للشخص أن يكون إنسانًا كاملاً، مع كلِّ عيوبه. هذا يمثل قيمة كبيرة، لأنّه يتوحّد مع عنصر عظيم اسمه الجمال.. أنا أبحث عن هذا الجمال!".

هناك العديد من الموضوعات المتكررة في عمله، على سبيل المثال، مسألة الوجود الإنساني. الأبطال الوحيدون يملؤون لوحاته في مواقف قد تبدو بلا معنى. الشخصيات التي تهدد بالغرق أو التورط في هذه الحالة الفاصلة، لربما يكون هذا شعورا يمكن للكثيرين مشاركته، لأننا نعيش في زمن لم يعد يتسامح مع الاستمرار على هذا النحو من الضغوط. تغير المناخ يستوعبنا والرأسمالية تقوّض أيَّ استراتيجية مضادة. نحن مشلولون داخل أنظمتنا.

لم يؤثر الوباء على عمله اليومي كثيرًا فهو معتاد على العمل بمفرده، لكن كان من المثير له هو كيفية تعامل المجتمع مع الوباء، مثل السياسيين أو الناس أو حتى وسائل الإعلام. الاستقطاب المتزايد للمجتمع نحو مركز دائرة الرعب. من جهة أخرى وجد أن ردود الفعل المتعددة للفنانين مخيبة للآمال في الغالب. في كثير من الأحيان، تفرض المصلحة الأنانية نفسها عليهم..". إنَّ صعوبة التوصل إلى توافق اجتماعي في الآراء لا تبشِّر بالخير بالنسبة للمستقبل. أنا متأكدٌ تماما من أن الخبرات التي جمعتها ستؤثر بالتأكيد في عملي، ولكن ربما بشكل غير مباشر.."، يقول سيباستيان: "لقد منحني الوباء العالمي الفرصة لإنشاء لوحات لا يظهر فيها الإنسان بعد الآن. أن أتحوّل نحو رسم حياة ساكنة كل ما تبقى فيها هو القشرة. إن تجنّب السرد يمنح اللوحة الفرصة لتصبح مركزًا لخطابها البصري الخاص..".

 لدى سؤال شريدر إن كان سلوكه بتغطية شخوصه بالستائر أو الضمادات أو بالملابس البيضاء قرارا متعمدًا، أم أنه حدث بشكل عفوي. قال: "كنت قد انتبهت لتراكم الأقمشة والملابس في لوحاتي السابقة، وفكرت بتلال من الغسيل التي لا تعطي أي معنى من ناحية وتثير السخرية من ناحية أخرى. لأنّه ما من شيء تمرّ بجانبه مرور الكرام أكثر من كومة من الغسيل.. في الوقت نفسه وجدتها تجسد أوجهًا كثيرة من ثقافة هذا العصر. الاستلقاء على سبيل المثال، أو المماطلة، نوع من الكسل والبلادة ربما نتيجة الرفاهيَّة.. نرى مثل هذه الأكوام من الطيّات في هندسة فرانك جيري، الذي أراد جلب المزيد من الإنسانيّة إلى المدن. تاريخ الفن كلّه مليء بتمثيل المآزر والجلابيب. 

 عندما يشرع المتلقّي في قراءة أعماله تجده يقوم بمسح اللوحة بعينيه ببطء، إنّها عملية حسيَّة. يركّز في الكيفيّة التي يتعامل فيها الرسّام مع موضوعه. كيف يتعامل مع مواده. إنّها سياسة خاصة بحدِّ ذاتها تشعر أن فيها كمًّا كبيرًا من الحذر في تلمُّس طريقه.

يقول سيباستيان شريدر: "لم أعتبر نفسي بعد جزءا من تلك الحركة الأوسع في الرسم، والتي تتميز بلغة بصريّة تمثيليّة وتركيز وجودي قوي في كثير من الأحيان.. لكن هناك عدداً من الرسامين الذين يتعاطون مع لغة بصريّة مماثلة، لكن مدى صلة أعمالي بهذه الحركة هو شيء لا أستطيع التحكّم فيه أو الحكم عليه. أعتقد أنَّ اللوحات والأساليب تنتشر بسرعة أكبر عبر الإنترنت مما يخلق مجموعات من الاهتمامات المتشابهة أو المتقاربة. يبقى أن نرى كيف سيؤثر هذا على المجتمع على المدى الطويل".