طقوس الجنس المقدَّس

ثقافة 2023/01/31
...

 ناجح المعموري

لا يتضمن «نشيد الانشاد» أي إشارة لعلاقة العبرانيين به، ولم ينطوِ على نبوءات مكشوفة ولا عظات ملهمة، أليس غير مجموعة جمعت في غير تنسيق من أناشيد الحب الحسي، خالية من كل مضمون تعليمي أو أخلاقي أو لاهوتي أو ديني. حتى أن القراءة العابرة لمقاطعه الشهوانيَّة كافية لأن تضع القارئ الحيادي بأن الكتاب تفوح منه رائحة العشق والهوى والشهوة والرغبة. كيف إذن تمَّ إدراج هذه المضامين الدنسة الدنيوية في الأسفار المقدسة المعتمدة، ووضعها جنباً إلى جنب مع أسفار موسى والمزامير وأسفار الأنبياء؟.

كيف تسنى له أن يمرق من تحت الأعين الحادة لرجال الدين الذين كانت العفة عندهم والعذريّة والطهارة الجنسيّة أموراً لا يجوز المس بها؟، لقد قبل به الناس البسطاء والوعاظ والمعلمون اليهود على حدٍّ سواء على أنّه أكثر الأعمال كتابيّة «نسبة إلى الكتاب المقدس» إلهاماً، وعلى أنّه «قدس الأقداس» حقيقي حريٌّ بالقراءة والتلاوة والتكريم والتبجيل. الربّيون يؤمنون بأن نشيد الانشاد برمته قد كتبه الملك سليمان. الذي كانوا يرون فيه جامعاً في شخصيته واحدة الحكمة والشعر والعشق. تماماً مثلما كانوا يؤمنون بأن موسى مؤلف التوراة والملك داود مؤلف المزامير. وأن كتابا يؤلفه ملك بلغ من النبالة والوقار ما بلغه سليمان لا بدَّ أن يكون كتاباً ذا مغزى عميق من الناحية الدينيّة والقيم الروحيّة البعيدة، بالرغم مما يطفو على سطحه من عبث وحسيَّة. وكان كل ما يجب عليهم عمله صرف النظر عن معنى النص الحرفي والظاهري، والالتفات إلى المعنى الذي وراء المعنى حتى تتضح لنا المجازات والاستعارات البناءة الموحية التي كان يرمي إليها سليمان الورع الملهم: فالعاشق في نشيد الانشاد، لم يكن ذلك الفتى العذب الثغر، اليمامّي العين، الكثيف خصلات الشعر، المتورّد الوجنتين، بل كان يهوه نفسه. والحبيبة لم تكن تلك العذراء الجميلة الجعداء الشعر، ذات الشفتين القرمزيتين، والفخذين كحُليٍّ صاغتها يد صانع حاذق، وسرّتها كأس مدورة، بل هي شعب اسرائيل – عروسه وزوجته.

إنَّ هذا النوع من العلاقة بين يهوه وشعبه أو بنيه وبين أورشليم مثلاً، وكأنّها علاقة زوجيّة سهّلت على مفسّري التوراة قراءة نشيد الأناشيد من ضمن هذه الخلفيّة ومن ضمن كل ما كان يستحوذ على عقولهم وعواطفهم بسبب السبي والتشتيت والعودة.

 لقد عرف اليهود طقس الزواج المقدس تأثراً بديانات الشرق المجاورة ولم تستطع الديانة الجديدة أحكام باب الاتصال والتبادل وعلى الرغم من قوة يهوه ومراقبته لليهود، كانت بعض المراحل قد شهدت انفتاحاً واسعاً أمام الديانات الوثنيّة المجاورة. وطقوس الزواج المقدّس، اتّسعت أكثر في فترة حكم الملك سليمان لأنّ الصراع الفكري قد تطور واتسع مداه أكثر. لهذا كان لهذا الطقس مجال حيوي حيث كان يهوه أو ممثله يؤدي دور الزوج واسرائيل أو اورشليم/ أو بنت صهيون يتبادلن الأدوار مع الالهة الأم/ عشتروت. لكن ذهابهم إلى بابل، كرس هذه الطقوس أكثر، والابتعاد عن المكان الخاص بهم والذي ارتبط مع ذاكرتهم الجديدة، قد نشط هذه الطقوس، ومارسوها مع البابليين وجعلوا من الملك سليمان أنموذجاً غائباً ومعتقداً، كي يلعب دور الاله وبالإمكان أن نعتبر «نشيد الأنشاد» نص عراقي/ سوري/ كنعاني.

لاعلاقة مباشرة لنشيد الانشاد بتاريخ اسرائيل ولو أنه أتى على ذكر تخت سليمان 

« 3: 7» والتاج الذي توّجته به أمه في يوم عرسه» 3: 11 « كما أنه لاعلاقة بنشيد الانشاد في الاضافة الأخيرة التي تذكر اسم سليمان وجباته.. ولكن نشيد الانشاد في شكله التوراتي الذي وصلنا يبقى غنياً في إطاره الجغرافي/ فلسطين/ ولبنان ولكنه في الوقت نفسه.

 ينظر إلى دمشق ويعرف مركبات فرعون، ولافت للنظر فيه اشادته بجمال لبنان وسيول لبنان والعروس من لبنان ورائحة وفردوس لبنان.. ومن الملاحظ ايضاً أن نشيد الانشاد يحتوي على ألفاظ وتعابير يعتريها التباس في المعنى وتتحمل عدة تأويلات ومعظمها لم يرد في مواضع أخرى من النصوص التوراتيّة. 

والكتاب برمته كتب في شكل خطب وتوسلات ومحاورات ومناجاة وليس فيه ما يدلنا على بداية لها ونهاية كذلك لا يتضح فيه من هم المتكلمون والمتخاطبون. طبعاً، هناك الفتاة المجهولة الاسم التي يتمها العشق، توصف أحيانا «خليلة» و»عروساً» و «اختاً» كذلك هناك العاشق الذي يشار إليه بـ «الملك» والملك سليمان: على نحو أكثر تخصصاً، لكنه هو أيضاً، راع قوي البنية، متورد اللون، شهواني النزوع، ليس فيه علامة من أبهة الملك وترف القصر... وهناك إشارات متفرقة إلى «نبات اورشليم» و»نبات صهيون والحراس الذين يطوفون بالمدينة» و «اخلّة» العاشق، كل ذلك اصطنعه المؤلف ليكون فنوناً أدبية تتيح الفرصة للاستطرادات الخطابية والتعجبية التي استخدمتها الشخصيتان الرئيستان.

إنَّ الإصحاح الأول من الأناشيد قد انطوى على منظومة رمزيّة أيضاً ذات علاقة بالنظام البعلي الذي عرفته سوريا/ وكنعان وكشف عن مجموعة من العلامات التي تحيل لدراما الإله القتيل المحتفل بقتله ترقباً لانبعاثه. وكذلك تماهياً مع طقوسه التي تتبدى بالاتصال الجنسي المقدس، الذي يمنح الجسد صفته المتجددة، الخلاقة، القادرة على الموازنة بين ماهو ديني/ مقدس وبين ما هو حياتي، وذلك عبر طقوس الجنس، التي تمنح الموضوعي/ السياسي بعداً متحرّكاً وخاضعاً لسيرورة مستمرة. غير أن التجديد الحقيقي للقدرة الإلهيَّة، لا يتم إلا بالموت الفعلي الحقيقي الكامل الذي يليه البعث، حيث يُزيل الموت ما يلي، ويعطي البعث كل جديد. ففي النظم الميثولوجية التي لا وجود فيها لمعتقد الموت السنوي لإلهة الطبيعة، نجد هناك معتقد الموت الدوري حيث يموت الاله عند استكمال دورة زمنيّة تقدر بعدد من السنين، تختلف من ثقافة إلى أخرى. فإلهة الخصب هي أكثر الالهة حاجة إلى تجديد قواها، لأنَّ أي بادرة ضعف تنتابها، سيكون لها تأثير على توازن الطبيعة وحياة الكائنات، لذا كان هناك على الإله ان يقدم نفسه للموت وهو في عز الشباب، يجدد نفسه، ويبعث ثانية قبل أن تنال منه السنون.

إنَّ إله الخصوبة في المعتقد الكنعاني/ الاوغاريتي، يجدد قواه عن طريق الموت والبعث من جديد في دورة مقدارها سبع سنوات، كما قال الاستاذ فراس السوّاح. الآن اتضحت العلاقة التشاكلية الموجودة بين الإله/ والملك، علاقة تمثيل السماوي المقدس، على الأرضي. ومنح الملوكيَّة صفتها المقدّسة وحماية تبدياتها السياسيّة. وكل الذي يقوم به الملك موحى به من الإله، الذي يجدد طاقة الملك، ومن خلالها يحقق تجديداً لطاقة الحياة ومركزها الكوني، وقواها الفصليَّة. ولذا أعتقد بأن الملك سليمان امتداد يهوه على الأرض، ويقوم بدوره في المملكة. من أجل أن يحميها ويحافظ على الملوكية اليهوية/ القدسية والعدد الغفير من النساء والسراري، تعبير عن طاقة وجدت في ذلك مجالها، وهي طاقة يهوه، الكامنة في جسد سليمان الذي أنابه يهوه عنه في طقوس الزواج المقدس. 

واستمرار إقامة الاتصال الجنسي المقدس، من قبل الملك سليمان/ هو استعادة للدور الالهي/ الشاب الذي قام به الاله الشاب دموزي/ تموز وانتقل الاله اليهوي/ مجسداً بالفعل الطقسي السليماني وهو يمثل تكريساً لهذا الدور، مثلما هو شكل اكتمل عبر التأهيل الاتصالي، في المعابد، وعند ممارسة طقوس الندب والاستذكار، يتوقف طقس الجنس المقدس والممارسة الالوهية له، وتنطفئ اللذة، لان مفتاحها ومركزها في الكون والعالم قد غاب وتعطل هو الآخر. وهذا التوقف، يدخل ضمن القيود المفروضة الهياً، وهي قيود دينية/ ذات صلة مباشرة بفعل الخصوبة في الحياة وتدمج معها كلياً. ويمكننا القول بان سليمان الشاعر والعالم وهاوي النساء كان منفتحاً نحو آلهة نسائه ونحو عشتروت إلهة الصيدونيين بشكل خاص. وسليمان الذي وصلت شهرته الى جميع أنحاء العالم القديم، كان منفتحاً أيضاً على التبادل الثقافي الذي رافق التبادل التجاري، وليس من المستبعد أن يكون ملماً بثقافة عصره. ومن وصلت شهرته إلى مملكة «سبأ» ومن كان يستقبل الضيوف والهدايا من الممالك المجاورة كافة، كان بشكل طبيعي على إطلاع بما أنتجه الأدب المقدس في كل من وادي النيل ووادي الرافدين والساحل الكنعاني. ومن كان محوطاً بهذا العدد من النساء «الغريبات» لا بد من أن يكون على معرفة بطقوسهن الدينية وبمعتقداتهن، ولذا إلتصق بهن بالمحبة وأمَلْنَ قلبه، والعهد القديم مليء بأمثلة عن ميل قلوب بني اسرائيل إلى آلهة غير يهوه، آلهة غريبة، وخاصة آلهة «البعل والعشتروت» بصيغة  الجمع.