التطرُّف ومنطق احتكار الحقيقة

منصة 2023/03/13
...

   حازم رعد

  للإنسان أن يعتقد أو يتبنى الفكرة التي يجدها مناسبة له أو تنسجم مع فاهمته ويتقبلها بأي صورة من الصور، وليس لأحد الاعتراض عليه، ولكن بالمقابل أن كل فئة من الناس مهما كان توجهها الديني أو السياسي تقابل الفئات الأخرى بمنطق «الفرقة الناجية» أو بلغة احتكار الحقيقة لنفسها فإن ذلك ايذان منها ببداية فصول من الاقصاء للآخر المختلف عنها هوية أو دينياً أو فكرياً.

وأنها بتلك الحمولات «المتطرفة» تصنع من الفئات الأخرى «التي تختلف معها بالدين أو المذهب أو الفكر» عدوة لها سواء شعرت بذلك أو لم تشعر. إن مقابلة الاخرين بهذا المنطق الذي يدعو إلى الالغاء وعدم الاعتراف بالمختلف لن ينجم عنه إلا مزيداً من البغضاء والتفرق وتوجس الخشية المستدامة عند الجميع وسيرسخ منطق «قلق الجميع من الجميع» وطفوا مخاوف على سطح الواقع يتسابق خلالها المتخاصمون جميعا للتفكير جدياً بتدريع نفسها أمام الآخر وتلجأ إلى منطق الاستقراء السياسي والعسكري للحيلولة من دون الضعف الذي قد يؤدي إلى الاجهاز عليها ومحو هويتها، وسيجعل من المنظومة الاجتماعية في الجغرافية الواحدة والمتعددة واقفة على أكف عفريت «التطرف والعصبيات ومنطق الالغاء»، وعندما تتعرض تلك المنظومة لأي حراك متوتر ومخل فإنها ستكون عرضة لأي صدام وانفجار، سيما وأن إحدى تلك الفئات أو بعضها يمتلك مبررات استعمال القوة وحق الدفاع عن النفس والحفاظ على هوية الجماعة والسهر على سلامتها التي حاولت الأخرى تهميشها أو محوها واستبدالها بأخرى من خلال منطق احتكار الحقيقة أو الغائها بمنطق الفرقة الناجية وعندئذ لا يبقى من خيار للطرف المقابل إلا اللجوء إلى الصدام للحفاظ على الخصوصية أو لخلق توازن بين القوى قائم على احتكار كل جهة لأدوات اختبار الصمود المر المتأرجح ما بين الالغاء أو الصراع . بالعادة أن الصراع الذي يحصل بين الجماعات المختلفة هو نتيجة أفكار متطرفة تصورات تنطلق من أفق ضيق لا يستوعب الآخرين، ويضيق بهم ذرعاً في هذه الحياة الواسعة التي تسع الجميع ويمكن للكل البشري العيش فيها على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأعراقهم بكل أمن وطمأنينة حاملين معهم وجهات نظر “أرحب من الأيديولوجيا” بتعبير مستعار من عبد الكريم سروش. 

بيد أن الناس “المتطرفين منهم” يعتاشون على الخلاف والصراع المستدام لا يجدون حظاً أوفر للعيش والبقاء إلا على شحن نار الاحتراب المستمر بوقود من أفكار متطرفة تختزل الحقيقة ومفاهيم “في جوهرها صناعة بشرية خالصة” تنم عن عوق في التفكير أو أزمات نفسية تعصف بهم فيعمدون على جعلها أتون صراعاتهم المستمرة، لأن التطرف بتعبير حيدر حب الله - كأنبوب النفط المشتعل لا يمكن اطفاؤه إلا إذا قطعت ضخ النفط عنه لتنهي مشكلته. ينبغي ألا نغفل تأثير الكلمات والأفكار في الحياة والناس كبير جداً فجل الحرب كانت من أجل أفكار أما دينية وأما دنيوية، فالناس عموماً يعيشون ويموتون من أجل الأفكار، وهذه الأخيرة تحكم العام كما يقول اوغست كونت. 

وهذا ما أدعوه بأن الفكرة المغلقة التي تحصر الحقيقة بين “ألفها ويائها” هي النشاط المتطرف الذي يوصد أبواب الانفتاح على الآخر وعدم الاعتراف به ومقابلته بالبغضاء والكره وكل تلك القيم الشريرة تقود حتماً إلى العصبيات والانحياز الجماعي للفئات البشرية وتنتج الأزمات والصراعات وتدعو الآخرين إلى المقابلة بالضد المماثل حتى تجد لنفسها فسحة للوجود والبقاء.  

بيد أن ذلك ليس كل الأمر فإن بالمقابل توجد الفلسفة التي تميزنا عن الأقوام المتوحشين بحسب ما يراه رينيه ديكارت، فليس التوحش إلا الاعتقاد بالفرادة على مستوى الفكرة أو العيش وعدم ترك مساحة للآخر واعتباره فاقداً للقيمة والكرامة أنه منطق الغاية “إن أنعم أنا بالعيش وليس من اعتبار للآخر” ومن طريقة التفكير تلك تبدأ اولى حلقات سلسلة الممارسات الاقصائية بالفعل. في الواقع ولربما نصل إلى مرحلة أن نحاسب الناس على الأفكار التي يحملونها فقط، لأنها تختلف عنا وليس لكونها خاطئة. إن جوهر الفكرة “الحل والعلاج” لمنطق اختزال الحق بجماعة دون أخرى والقول بالفرقة الناجية والتي نستلهمها من فكرة ديكارت أعلاه هو أن الفلسفة حينما تتفشى في واقع اجتماعي، وتأخذ بالتمدد فيه ويكثر تداول أفكارها ومفاهيمها فأن ذلك يقل إلى حد ما من نوبات التطرف والعصبيات على مستوى الأفكار والممارسة معاً. ومعنى ذلك أنها تثخن الواقع بأفكار تزيح تدريجياً الأفكار المتزمتة التي تختزل الحقيقة وتفصل النجاة على مقاسات الايديولوجيين الذين يزيفون الواقع ويخلون به بتلك الأفكار التي توظف كل شيء “الدين  والاقتصاد والفن والأدب” من أجل مكاسب مصلحية للجهات والأفكار التي ينتمون أو ينتسبون إليها. 

فإثخان الفلسفة والأفكار المنفتحة على الآخر في الوقع تقل من نوبات اليأس والتطرف والتحيزات التي لا أساس عقلاني مقبول لها، فالفلسفة على غرار ذلك هي التي تنقذ الواقع من ترهات النمذجة المتحيزة.

وأقصد بذلك “هو أن اجتراح نموذج جماعاتي يقوم على أساس التفرد بالحق واختزال الحقيقة، يظهر لنا جماعة تؤمن بمنطق الاقصاء والغلبة والقوة المتحيزة للفكرة دون مقاربة الأفكار الأخرى ومطارحتها وقبولها على أساس إنساني أو حق طبيعي للجماعة أو الأفراد».

فلا بد أن تحدث فاعلية مقابلة نوعية في الواقع، لكي نسد الفجوات التي يتدفق منها التطرف والعصبيات ونشيد صروح السلم المجتمعي عبر اشاعة خطاب العقلانية، وأن نتمرن وندرب الآخرين على الفصل بين الفكرة “مهما كانت” كحرية خاصة وبين الممارسة التي قد تقتحم خصوصيات الآخرين، القطيعة على هذه الشاكلة مقبولة ومعقولة إلى حد ما، لأنها تسهم بتثبيت النظام والسلم الاجتماعي، وكل ذلك تتوفر الفلسفة عليه وتتكفل رعايته عبر رؤية وأفكار ومناهج وأدوات تجدها ناجعة في انجاز هذه المهمة الجليلة.