فن النسيج.. والذاكرة والحنين

منصة 2023/04/03
...

  يقظان التقي


 هو المعرض الفردي الثالث للفنانة ليلى جبر جريديني (مواليد 1963) تقيمه في «غاليري جانين ربيز»، بيروت حتى الخامس من نيسان/ ابريل المقبل، ويحتوي على خمسة أعمال من النسيج، وثلاثة تجهيزات مكوّنة من النول والخيطان، وثمانية عشر عملاً من النسيج والأكريليك. والأعمال كلّها مستوحاة من إرث عائلتها، التي امتلكت مصنع نسيج، وقد اضطرت ليلى، بعد سنين، إلى العودة إلى هذا المصنع، الذي لطالما حمل اسم «شركة الغزل والنسيج الصناعية»، مستعيدة ذكريات العائلة، ووالدتها الرسامة.

المعرض يحمل عنوان "بنّوة" يجمع بين النسيج التقليدي/ الكلاسيكي الجميل، وبين الرسم، وفن التصميم والتجهيز، وهو أقرب إلى الأخير، في مجازاته ومحاورته لنسيج اجتماعي، ولحقل بصري من العلاقات والحكايات، من نوع تلك العلاقة مع غرفة المصنع، العائلة، الذاكرة، ومع تلك الحوارات بين الخيط واللون. الأشياء التي تبدو اليوم موتيفات تالفة، تستعيد حضورها في تجريد الاشياء والالوان، الاماكن القديمة، انماط حياة من خلال محاكاة الخشب، أو القماش، أو الكرتون. كانفا، أم نسيج، أم كولاج، هي معا أشياء تجتمع معا في تشكيل بصري وذهني معا.

تجربة غنية لجريديني في فن النسيج المعاصر، بأفق لوني مفتوح، برعت فيه الفنانة اللبنانية الراحلة هوكيت كالان، ابنة رئيس الجمهورية بشارة الخوري والذي اكتسبت شهرة عالمية في كبرى الصالونات الغربية، إلى فن التصميم، الذي صار جزءاً من النسيج الفني في المعارض العالمية، إلى حضوره المنتج التسويقي في التجارة العالمية، التي تشغل الصين حيزا كبيرا منها، وتتصدر لائحة الانتاج العالمي في النسيج، الى مصر والهند، وسوريا.  الفنانة تجري المستحدثات على العمل النسجيّ، شكلاً ومضموناً، كما تضيف تجربتها للربط مع سطح اللوحة التشكيلية الذي يتخذ صفة الـ Patchwork، في انتاج خيوط موصلة بين الرسم والنحت، والتصميم. ثم خيوط الروابط العائلية والعلاقات الدافئة التي تشكل وجوه الذاكرة، فيما يشبه المعرض الاستعادي الصغير لجذور عائلية، في تجريد هندسي على نسيج كليم - مصنع إيوان مكتبي - تركيا.

فضاء تشكيلي دافئ وجميل، ومن حنين بين زمنين. ليست نوستالجيا لأعمال تنحو تجريديا وتجهيزيا. كأنها تطل على مستقبل العلاقة، التي تنتقل من الأم إلى ابنتها، ومن الأم إلى ابنها، الذي سيؤول إليه المصنع المنسي، في منطقة الحدث.

كل قطعة قصة، وفقوق على خيوط من الدلالات، والتأويلات البسيطة، والمشاعر العاطفيَّة.  كأنَّ الخيوط تحاكي الجسد واحتمالاته وبلمسات أنثويَّة ناعمة. ربطاً ميتولوجياً وخيالياً واستعارياً في آن.

أعمال مشغولة بعناية وجهد ومزاج فردي خاص وحميمي وبإيقاع عاطفي بنّاء، والأعمال تحمل عناصر التجريد، وإشاراته ورموزه ودلالاته، وأحيانا بلغة البدائيين الاوائل، كأنّها امتداد لذات انسانية عميقة، وثمة خيط رفيع يربط بين التزيينيَّة في لوحة الحائط، وبين عنصري التجريد والغموض الجواني في الالوان الزاهية. نسيج يأخذ المعرض إلى مستوى من الحب، وبسقف من الاحتمالات اللونيَّة الممتعة للعين، وكتمرين ذهني آخر، على بنيوية تصاميم مشغولة جيدا، ومشغولة بتلافيف من ذاكرة، وضوء، يحملان مجازات موحية، تحمل الكثير من الفرح والمؤانسة. أسلوب ليلى جريديني واعد، في مدى حركية المادة والالوان، ومستوى من التدخلات والعلاقات، على سطح لوحة مرسوم بالاكريليك، أو في تجهيز محمول بالخيوط على الحامل الخشبي، ربطا بميثولوجيا، قديمة ما تزال تمتلك أدواتها الحسيّة الجاذبة لمن حولها، لأكثر من عين. موسيقى الغرفة اللونية في بعدها التأملي والتجريبي، بالعودة الى المنتج البدائي، الذي أسهم في إنعاش النهضة التشكيليَّة.