في مجموعة {كونكان} لسعد محمد رحيم

ثقافة 2019/04/17
...

د. نجم عبدالله كاظم
 
- 1 -
واضح أن سعد محمد رحيم لا يغادر، في قصص مجموعته الأخيرة “كونكان” التي صدرت قبل رحيله المؤلم، ما نعرفه عنه في رواياته، وبشكل خاص “ترنيمة امرأة.. شفق البحر” و”ظلال جسد ضفاف الرغبة” و”مقتل بائع الكتب”، عدا ما تمليه عليه الكتابة القصصية، في اختلافها عن الرواية. ولعل أول المشتركات هو أن غالبية قصص مجموعته، وكما غالبية الأعمال السابقة التي أشرنا إليها، تبدو ذوات خلفيات واقعية، ولكن غالباً بأحداث وحوارات وإلى حد ما شخصيات والأهم معالجات خاصة، مما يخرجها من الواقعية مذهباً. الحقيقة ان القصص تتوزع ما بين قصص ذوات أرضيات وأجواء من الواقع، وقصص تغريبية معبرة عن الواقع. وهكذا يمكن القول إن من جميل ما يمكن أن يُقال عن نزعة القاص ومذهبه الفني هنا، وكما في عموم تجربته السردية، أنه لا يغادر الواقعية، ومع هذا فالحداثة والتحديث يدخلان القصص من أوسع أبوابها، بل هو قد يغادر الواقعية ظاهرياً أحياناً مغادرة شبه كاملة ليقتحم مدارس ونزعات حديثة. في كل الأحوال القصص بكل أشكالها ونزعاتها- إذا سلمنا بوجود نزعات فنية متعددة- لا تغادر واقع السنوات الأولى من هذا القرن غير العادي برعبه وخوفه وموته وما يقود الأحداث إليه من مسارب ومسارات لا يمكن لها إلا أن تأتي بغير المعقول وغير الواقعي التقليدي.
    وهكذا جاءت القصص الواقعية من المجموعة، وهي تقوم موضوعاً على الواقع العراقي هذا وتعالج موضوعاتها أساساً معالجة واقعية، لا تنغلق عما يخرج عن هذه الواقعية، ليمنحها ذلك جمالية خاصة، كما هو حال قصة “مساءٌ عاطل”، التي تقدم عائلة تترك أحد أولادها وتهرب من آخرين، مستحضرة في وعينا بالضرورة معاناة الأزيديين المأساوية من داعش. أما قصة كونكان، فتكاد تنفرد بما يمكن أن نسميها حالة واقعية جميلة حين قدمت رجلين أحدهما بقمصلة جلدية، والآخر بكنزة صفراء، يلعبان الورق (كونكان) في أحد أيام التفجيرات والعنف، وسرعان ما نعرف أنهما ليسا صديقين، بل أن لقاءهما كان  قد ظهر ذلك اليوم، حين تُحرق سيارة أجرة يكون فيها صاحب الكنزة الصفراء، فيُقتل السائق بينما يترجل هو ويهرب وسط الفوضى ليواصل الجري حتى يدفع باب بيت فيجد نفسه أمام صاحب القمصلة الجلدية، وسرعان ما يبدآن، بعد تناول طعام بسيط، بلعب الكونكان. تنتهي القصة وكأنها لم تكتمل، أي بنهاية مفتوحة لا نحتاج معها إلى تكملة. والأمر ينسحب على قصة “حدث ساخن”: صحفي ومصور ينتظران في مقهى توقف الانفجارات في الخارج، فتقتحم امرأة وطفلة المقهى، في أعقاب انفجار، وهي تبكي ابنها الذي يضيع منها، وفجأة، ومع شجاعة وجرأة الصحفي وخوف وتردّد المصور، يخرج الاثنان على وقع بكاء الأم بدون أي خوف أو تردد، ليبحثا عن الطفل. 
 
- 2 -
    بدون مغادرة جمالية القصة الواقعية التي خرجت بها القصص السابقة وغيرها، خصوصاً بملامح التحديث الذي أخرجها من أن تكون تقليدية، لعل أكثر ما ميّز المجموعة بوصفها، بقدر ما، كلاًّ واحداً، هو ملمح التغريب الخاص، الذي يُخرج قصصاً معينة من خانة القصة الواقعية لتقترب من اتجاهات ومذاهب أخرى أكثر كالتغريب واللامعقول. فإذ يتمثل هذا الملمح في قصص، مثل “عند الضفة العالية”، التي تقدم طفلين يريان، وهما يحاولان صيد سمك، ما يبدو أنه جثة، ووسط حيرة وعدم معرفة ما يجب أن يفعلاه يعودان إلى البلدة، يجعل هذا التغريب من قصص أخرى تغريبية تماماً، خصوصاً حين تحضر الكافكوية واضحةً فيها، وكما رأيناها من قبل في بعض روايات الكاتب، في المكان والأبنية والمرافق المختلفة، والحدث المفاجئ والغريب، والظواهر غير المعقولة. وحضور التغريب واللامعقول يتم حتى مع عدم ابتعادها، في ذلك كله، عن الواقع، كما نجده، إلى حد كبير، عند كافكا الذي تقوم أعماله على الواقع والخيال والحلم. ولعل أهم وأجمل قصص المجموعة، وربما قصص سعد محمد رحيم عموماً التي نحت هذا المنحى، ولتكون عندنا إحدى أجمل القصص العراقية، قصة “الشخص” الطويلة، التي يدخل بطلها دار سينما، ضمن أجواء كافكوية واضحة وخالصة، ويُعرض عليه فيلم يدور عن قاتل ومقتولين ليكتشف البطل، وهو يجد نفسه في كل الشخصيات التي يراها فيه، أنه هو القاتل
 والمقتولون:
    “يدخل الشخص، فيقف مع دخوله الرواد.. إنهم بأعمار مختلفة، (...) وجوههم التي يجمّدها الخوف تكاد تكون متطابقة، لولا تغيّرات طفيفة يقتضيها حُكم العمر.. يمزّق الجو صوت المدفع الرشاش، فينكفئ الجميع ويسقطون فيما تتدفق الدماء من صدورهم.. يلتفت القاتل نحو الكاميرا، للمرّة الأولى؛ تعابير وجهه منكشفة، وقد شلّه الفزع.. هو الوجه نفسه.. وجه أولئك الضحايا الذين قضوا لتوّهم. (أقف وأشهق: يا الله.. إنهم جميعاً يشبهونني.. إنهم أنا؛ القاتل والمقتولون)”- المجموعة، ص49-50.
وواضح ما المقصود بذلك تعلقاً بالعراق. 
 
- 3 -
    لأن قصة سعد محمد رحيم تقوم، في موضوعها، على الواقع وبما لا بد أن يقود إلى واقعية ما، من جهة، وعلى التغريب مَلمحاً أو جوهراً فنّياً لهذا الذي يتمثّله فيها من جهة أخرى، فقد حضرت الحوارات والشخصيات المتحاورة التي يحضر معها الواقع متمثّلاً بالشخصيات التي هي عادة ممن نألفهم من أناس، والغرابة والتغريب متمثلين في حواراتهم. وهكذا إذ يعتمد الواقع والواقعية باستحضار هكذا شخصيات، فإنه يُضفي عليهما وعلى الحدث الذي يحضران فيه الغرابة والتغريب. فـ”من منا لا يستحق مصيره” قصة صياد وشخص آخر على ضفة نهر، لا نعرف بالضبط ماذا يريد كل منهما، وهما يتحاوران على امتداد القصة. وقصة “صورة رجل” الطويلة عبارة عن حوار ما بين فتاة ورجل في محطة قطار، يبدو كل ما يقولانه كذباً لاسيما أقوال الفتاة. في النهاية يبدو كأن البنت كانت تتخيل فحسب. أما قصة “امرأتان” فتقوم على حدث صغير هو محاورة بين أم وبنت حول موقف البنت من زوجها أو خطيبها المنفصلة عنه ومن أخيها الذي هو صديقها، وهي تحتقر الاثنين. 
   يبقى واضحاً أن لهذه القصص ولغيرها، في حواراتها وفي ملامحها المختلفة التي عرضنا لها، خصوصيات لعلنا بيّناها ضمناً أو صراحةً من خلال كل ما سبق، وهي خصوصيات تجعل  كل قصة من القصص السابقة متميزة، بل غالبية القصص الأخرى مثل “لما سقط المطر”الجميلة، و”لا فندق لعابر آخر” وإنْ عازها شيء ما، و”قبل عشرين سنة” القصيرة جداً. ولا تخرج عن هذا إلا قصص محدودة، مثل “ذلك الببغاء الأخضر الصغير” او”في مكان ما”. وأكثر ما تمثلت هذه الخصوصية، كما قلنا وأشرنا أكثر من مرة، هي الجمع ما بين الواقع والواقعية، والغرابة والتغريب بتوليفة فنية، أعتقد أنها إحدى خصائص قصص وروايات سعد محمد
 رحيم.