إدارة البنك المركزي العراقي.. من هامش الماضي إلى متن المستقبل

منصة 2023/04/12
...

  زيد الحلي 

هذا كتاب، ليس الأول من نوعه، لكنه بالتأكيد الأول في مضمونه، وما خرج به من معطيات ورؤى، جاء عن تجربة يوميَّة عاشها المؤلف في موقع المسؤولية، مقترنة باستشراف علمي وقراءات معززة بالوثائق، وقد خرجت، وأنا أنهي قراءتي الثانية له على مدى أسبوع، بانطباع بأن كتاب السيد علي محسن العلاق الذي حمل عنواناً مثيراً هو (إدارة البنك المركزي العراقي.. من هامش الماضي إلى متن المستقبل) ينبغي أن يكون من المفردات الدراسيَّة الجامعيَّة في اختصاص المال والاقتصاد..

في مقدمة الكتاب، يقول السيد العلاق بما يشبه الأسى: (رغم ان دستور العراق الجديد، وضع النظام الاقتصادي على جادة التحول الى اقتصاد السوق، إلا أن قصور السياسات العامة، ومنها المالية بوصفها ركن السياسة الاقتصادية المكمل، قد ظهر جليا بسلوك الموازنة العامة للدولة، من حيث طغيان نفقاتها الاستهلاكية التوزيعية على حساب خلق الثروة المحلية، وتنويع القاعدة الانتاجية.. وبسبب ذلك، ساد النشاط التجاري الاستيرادي، شديد الصلة بطبيعة الانفاق الحكومي، وتراكمت أرباح سريعة يذهب أغلبها إلى الادخار والاستثمار الخارجيين، من دون إعادة توظيفها واستثمارها بتوسيع وتنويع القاعدة الانتاجية المحلية، التي تشكل قاعدة الاقتصاد الأساسية، وتاليا تحقيق الاستقرار الاقتصادي في شقيه المالي والنقدي).

الكتاب، بطباعته الانيقة، وبصفحاته التي تجاوزت 550 صفحة من القطع المتوسط، أخذت من المؤلف سنوات عديدة في كتابته، حيث ساح، اطلاعا ودراسة في 32 مصدرا عربيا رصينا، إلى جانب 29 مصدرا أجنبيا رفيعاً، متكئا على دراسته الأوليّة في الجامعة المستنصرية، وحصوله على البكالوريوس في المحاسبة وإدارة الاعمال في العام 1976، والدبلوم العالي المعادل للماجستير في العلوم المالية من جامعة بغداد في العام 1979.. وخبرته العملية الطويلة محافظاً للبنك المركزي العراقي، وممثلاً العراق في صندوق النقد الدولي، والبنك الاسلامي للتنمية، وعضو مجلس المحافظين في صندوق النقد الدولي، وعضو الاكاديمية العربية للمصرفيين العرب، وغيرها الكثير من المواقع ذات الاختصاصات المشابهة.


بنك القرن الـ 21  

وأمام هذه الخبرة الطويلة، نقف على معلومات مهمة جداً، حوتها صفحات الكتاب، منها: التخطيط الاستراتيجي وإدارة التغيير، وإعادة الهيكلة الشاملة للبنك المركزي العراقي، التحول الى بنك القرن الحادي والعشرين، مفهوم الاستقرار المالي، وسائل مكافحة غسل الأموال، العلاقة بين البنك المركزي والمصارف، إجراءات تعزيز الاستقرار المصرفي، الشمول المالي، الائتمان المصرفي في العراق، وغيرها من العناوين التي تغني المفهوم الشامل للوضع المالي والاقتصادي للعراق ماضيا وحاضرا.

وأنا أتابع قراءة صفحات الكتاب، سألت نفسي: ما هو بيت المال الذي يمثله البنك المركزي؟ وهذا السؤال أخذني إلى سؤال آخر: هل أن معرفة شؤون المال موهبة فطرية أم علماً؟ أعرفُ، أن جدلا كبيرا ينهض حول هذين السؤالين، لأنَّ مفهوم الشأن المالي ينهض من الزوايا المعتمة في الذات، الزوايا الغامضة التي تستجيب لتحولات القلق وتحولات الرؤى في النفس الإنسانيَّة، إنَّه المال، عصب الحياة، وأي خلل في إدارته يعني فوضى مجتمعية عاصفة، ولعل ما لمسناه في المدة التي سبقت عودة السيد العلاق، لإدارة البنك المركزي، خير شاهد على ما أقول، حيث كان العراقيون، وما زالت أثار ذلك باقية حتى الآن، يعيشون في حالة أشبه بالوسواس الذي يفرد إيقاعه على الذات راسما صورة لقلق مدمر.. وبذلك أقول إنَّ فهم واقع الحياة، ودراسة الحقائق، وفهم التاريخ المالي، ودورة الاقتصاد، بكل صنوفها، هي مزيج من الموهبة والعلم.

 شخصيّا، أنا أؤمن أن التصدي للكتابة عن منجز إبداعي، ينبغي أن ينتج رؤية، ليست قارئة للنص فقط، إنّما رؤية ترتقي الى مصاف جمالياته.. فالتصدي يجب أن يوازي روحيَّة المنجز، من أجل ظهور كتابة متناسقة مع الموضوع المقروء، شرط ألا تكون كتابة باردة، أو مجاملة، أو كسولة، بل عليها أن تسمو الى رؤية نقيَّة بيضاء.. حتى تشعُّ ومضاتها العميقة، في مساحات واسعة تستقبل الأسئلة المتنوعة، مرحبة بشتى الاستفهامات الفكريَّة.

لقد سبر المؤلف، أغوار البنك المركزي، طوال سنوات عديدة، وعرف مدخلاته ومخرجاته، معرفة دقيقة، وأن إعادة تكليفه مرة أخرى لإدارته جاءت، لتؤكد أهليته المعرفيَّة، في شتى دهاليز البنك، كمؤسسة مالية كبرى، وقد وظّف تلك المعرفة الدقيقة في اصدار كتابه هذا، فأحال المتخيّل إلى مرئي، والمجرد إلى ملموس، وكأنّه يكتب بالكاميرا.. فالتجربة خير معين في الرصد، والتحليل.

وهو يؤكد أنَّ البنك المركزي، يعمل بشكل وثيق مع محيطه بكل ظواهره الاقتصاديَّة، ومع محيطه الدولي بكلِّ متغيراته الاقتصادية، وحروبه الماليَّة، وقد واجه البنك تلك التحديات لتخفيف آثارها ومخاطرها، ولا سيما المتعلقة منها بمحيطه الدولي عند عدم مواكبة المعايير والممارسات التي تحول من دون الانفتاح.