جواد علي كسار
غضبُ أحد الأصدقاء تحوّل إلى حافز لكتابة هذا العمود، فقد أبدا ردّ فعل عنيف لمجرّد أنني استشهدتُ بنص من التراث في قضية حاضرة، وعدتُ إلى مفكر حضاري عاش في القرن الماضي.
أعتقد أن الإلمام بمصادر التراث ورموزه ومتراكماته (والإلمام هو أدنى المعرفة) هو ضرورة لأيّ كاتب معاصر ليفهم واقعه، ثمّ تتحوّل الثقافة بالتراث (والثقافة أرقى من الإلمام) إلى شرط لا بدّ منه في تكوين الرأي بأغلب ما يتصل بشأننا الإنساني والمعرفي، في ما تتوقف المراجعات النقدية لقضايا هذا الشأن؛ تحليلاً وتفكيكاً وقبولاً ورفضاً، على الاختصاص بالتراث، والاختصاص مرحلة متقدّمة تفوق كثيراً متطلبات الإلمام والتثقّف ولوازمهما.
لا أخفي إعجابي بعدد من المفكرين المعاصرين، وانبهاري بقدراتهم الفائقة، في ما تكشف عنه هذه القدرات الخلاقة، من معرفة أصيلة بمصادر التراث ورموزه وآثاره، وتكوين معرفي رصين، مع أن ذلك ليس من اختصاصهم في الغالب، كما لم يؤثّر قطّ فيعصريتهم، ولم يخدش بحداثتهم.
خُذ إليك مثلاً هادي العلوي وحسين مروّة وطيب تيزيني ومحمود أمين العالم في مشروعات قراءاتهم لتراث المسلمين عبر المنهجية الماركسية؛ وما كشف عنه حامد ربيع من تتبع ومعرفة واسعة بالتراث السياسي، عندما قدّم لمدوّنة ابن أبي الربيع، المعنونة: «سلوك المالك في تدبير الممالك» بضعف حجمها؛ كذلك فعل رضوان السيد في المقدّمة التحقيقية الرائعة لكتاب الماوردي، الموسوم: «قوانين الوزارة»، ويبقى المثال الذي لا أزال أقف أمامه دهشاً، هو القراءة النقدية التي قدّمها الراحل جورج طرابيشي لمشروع الجابري، ضمن رباعيته: «نقدُ نقدِ العقل العربي»، بما تضمنته من صبر على المعرفة التراثية الموسوعية الدقيقة، وقد حصدت من عمره نحو ربع قرن.
الأمثلة من حولنا كثيرة، وكلها تكشف عن جَلَد ومثابرة وصبر في اقتحام أودية التراث وتشعباتها الموغلة في مختلف صنوف المعرفة، على حين تجد من كتابنا المعاصرين وأحياناً من يحمل صفة باحث أو خبير بالفكر الإسلامي، وهو يحدّثنا عن علوم القرآن كمثال، بمعزل عن مدونتي الزركشي والسيوطي، ويتكلم بالتفسير دون أن يدرك الخطّ المعرفي الذي تبلور فيه، بدءاً من جهود الطبري والزمخشري وابن عطية والفخر الرازي والطوسي والطبرسي، بلوغاً إلى الآلوسي ومحمد عبده وجمال الدين القاسمي وابن باديس والطاهر بن عاشور والبلاغي والطباطبائي ومغنية والصادقي والمدرسي وأضرابهم.
المعرفة بالتراث صيرورة شاقة لكن لا بدّ منها لمن يريد أن يكون صاحب رأي، وهي تبتعد في شروطها عن مواصفات الثقافة السطحية العجلى الشائعة هذه الأيام، في عدد غير قليل من روافد المعرفة المعاصرة من حولنا.