آخر ما تبقى من بغداد

ثقافة 2023/05/02
...

  وارد بدر السالم


قد يبدو هذا الكتب كما لو أنَّه مرثية لبغداد وتواريخها المتتالية التي تناوبت عليها الاحتلالات الأجنبيَّة، منذ غزو جيش هولاكو المغولي في 10 شباط عام 1258 حتى احتلالها السافر من قبل الفرس والعثمانيين والانكليز.

فليس من الضروري أن تكون المراثي قصائد شعرية أو سرديات روائية وثائقية طويلة، ويكفي تماماً استعراض المدينة بتاريخها المفعم بالثقافة والتحضر، عندما كانت عاصمة للعلم والمعرفة والأدب والجمال والانفتاح على الآخر، ليقف الباحث فيها أمام ما اندثر منها وما بقي وماذا سيبقى منها من شواخص عمرانية وثقافية وعلمية بمرور الزمن الصعب.

وتلك هي سرديات الأثر الحضاري التي يمكن لمن يبحث في تضاعيفها أن يجد المفارقات الواضحة في بغداد الأثر والتاريخ الثقافي، الذي بوّأها ذات يوم مكانةً عليا بين المدن الإسلامية 

والعربية.

كتاب "آخر ما تبقى من بغداد" في طبعته الثانية لمؤلفه المهندس محمد صالح محمد- الصادر عن مؤسسة ثائر العصامي - بغداد 2021 هو دراسة بحثية.

يحكي بسرديات أثرية وشعبية وثقافية ما كانتهُ بغداد، وما ترشّح من الزمن فيها، بعيداً عن مهيمنات المراثي المعتادة، لذلك فإن تسجيل ملامح بغداد القديمة، الحاضرة اليوم، هو نوع من تأكيد أصالة المدينة في المدى التاريخ البعيد، مثلما هو تأكيد على أنموذجها الريادي في الإعمار الحضاري والمعرفة العمرانية والتأليف والترجمة والتلاقح العميق مع الآخر. 

ومن ثم فإن هذا السفْر البحثي يمتلئ بالمعلومات المصدرية القيمة عن بغداد، من تخطيطها بمختلف عصورها وشكلها المدور الذي كان أعجوبة زمانها، الى أبوابها وأسوارها وقصورها ومساجدها وأسواقها وجسورها وشوارعها ومدارسها وتكْياتها وكنائسها وأبراجها ومبانيها وجوامعها ومزاراتها وأضرحتها ومحالها وبيوتها ومقابرها ومتصوفتها وعلمائها وقضاتها ونهرها الوحيد ونظافتها ونظامها وسلطتها ومصارفها  وابراجها. 

إلى كل ما كان يؤسس دولة مدنيَّة، وضعت العلوم والمعارف قاعدة لبنيانها وخلفية لبنيتها الدالّة على تحضرها.


البقاء للمعرفة والحضارة

ما بقيَ من بغداد هو بغداد. 

بكامل ثرائها المعرفي والثقافي. 

وإلى كل ما كان يشهد على نبوغها وقوتها، قبل أن تتآكلها الاحتلالات، وتستبيحها الجيوش الأجنبية، وتلوّث حبرها وأوراقها وصحائفها.

لذلك فهذا الكتاب هو عودة الى ماضي المدينة. إنه بحث ارشيفي فيه من الوضوح والسهولة الشيء الكثير. 

ومن ثم يمكن القول إن ما بقي من بغداد الكثير في جانبيها من الكرخ والرصافة هو كثير: شارع الرشيد. شارع المتنبي (الأكمك خانه). 

سوق  الصفافير. خان مرجان. باب المعظم (باب السلطان). باب الطلسم (باب الحلبة).

 قلعة بغداد. طوب ابو خزامة. شارع النهر (شارع المستنصر) درابين بغداد وأزقتها الضيقة. الدور التراثية. محطة القطار. جامع الإمام الأعظم. نصب الحرية. نصب فائق حسن. باب الطلسم. ساعة القشلة وسراي الحكومة العثمانية. المدرسة المستنصرية. حمام الباشا. قبر خاتون بغداد. قصر شعشوع. الكرنتينة. الحضرة القادرية. مرقد الإمام الكاظم. جامع الخلفاء. محل شربت زبالة. جمع سيد سلطان علي. جامع الحيدرخانة. جامع براثا. قبر الحلاج. كنيسة السيدة العذراء. كنيسة سيدة النجاة.. وغيرها من الشواهد التي تنتمي الى أزمنة مضت، وتروي حكايات كثيرة عن ملامح بغداد التي كانت حاضرة الدنيا، ومربط الثقافة الإسلامية في تحولاتها الدرامية الكثيرة.


الحوادث التاريخيَّة

تبدو بغداد في سياق الأحداث التي مرت بها، من أن أزماتها التاريخيَّة بدأت منذ مقتل الخليفة الأمين عام 198هـ قبل أن تعزوها جيوش هولاكو وتقتل800  ألف إنسان وتعبث بالمدينة وتسرقها. 

ففتحت أبواب الخراب عليها من كل اتجاه، أمام الصفويين والعثمانيين ومن ثم الانكليز.  

وفي هذه المساحة التاريخية الطويلة، منذ سقوط الدولة العباسية نال بغداد ما نالها من خراب وتدمير، وأطفأ الغزاة أنوارها واستباحوا علماءها ورواد نهضتها، ولا يرد من المؤلف تفصيلات كثيرة تناسب حجم الخراب والأذى الذي لحق بها، بوصفها معروفة في سجلات التاريخ، ومن ثم توجب النظر الى الأحداث التاريخيَّة، بوصفها عاملاً مباشراً في القضاء على منارة بغداد وإطفاء شعلتها الحضاريَّة، وما الشواهد التي نذكرها أو لا نذكرها، إلا هي بمنزلة الجزء الحي المتحرك في جسد مدينة السلام. 

وقد مرَّ الباحث على الكثير من الأحداث الدموية الفارقة مروراً سريعاً من دون أن يحللها ويستخرج نتائجها، فمهمته توثيقيَّة على الأرجح لاستدراج الأرشيف التاريخي الذي تحتفظ به كتب التاريخ، مثلما هي القفز غير المبرمج على الأحداث والحوادث التاريخيَّة الكثيرة، لوصف الأثر الذي بقي من بغداد. 

ومن ثم فالكتاب نحو (440) صفحة هو اقتفاء الأثر البغدادي في ظروفه المتعددة، والأدوار الاستعمارية منذ هولاكو، وكيف أطاحت بهذه المنارة الشامخة في عباسيتها الحضارية، حتى أفولها الهولاكوي وما تبعه من احتلالات متتالية من الفرس والعثمانيين والانكليز، وكيف انهارت تلك الحضارة بعدما تداخلت معها الحروب وكوارث الطبيعة وتغير الولاة والحكام، اثر انهيار الخلافة العباسية بوجهها المعروف، ودخول بغداد في متاهات السياسة والاستعداءات القريبة والبعيدة من الجيران الطامحين، من دويلات وامبراطوريات خارجية.

يفضّل المؤلف اختصارات الشروحات الواجبة في تقديم الأثر البغدادي المتبقي من العصور القديمة. 

مثلما يحيلها عبر المصادر المتوفرة الى أصولها، لغةً وتسمية وموقعاً جغرافياً في الكرخ أو الرصافة، مستعيناً بوفرة كبيرة من المراجع والمصادر التي تقتفي أثر بغداد في عصورها الزاهية، يوم كانت مدينة العلم والثقافة والسلام. 

فما بقيَ من بغداد في بغداد كثيرٌ ووافر، ليس من السهولة نسيانه على مرِّ التاريخ البشري. وستكون مثل هذا الأسفار الكتبية مواقع مراجعة لتاريخ المدن العظيمة التي تبقى في الذاكرة الزمنيَّة مهما واجهته من أحداث جسيمة تهدد بقاءها الأسطوري. 

وحسبُ المؤلف أنه قدّم بغداد بصورها المختلفة، تاريخاً واستعماراً وخراباً، ليكون المتفحّص لهذا السجل أن يرى بغداد يوم كانت أسطورةَ معرفة وحضارة وعلم وثقافة.