القراءة من أجل أن نكون

ثقافة 2023/05/02
...

 كاظم جماسي

القيم العظيمة التي تعلمناها ومن ثم تمثلناها سلوكا وسمات شخصية لم يكن مصدرها في معظم الأحوال سوى الكتاب، فشجاعة شيخ همنغواي، وبسالة زوربا، والحلم العظيم لدون كيخوته وهواجس فيرتر غوته، وقلق راسكولنيكوف، وكوابيس كافكا في محاكمته، ورجع التكرلي، واستحالات أولاد حارة محفوظ، ونخلة غائب طعمة، وياطر حنا مينه، وكشوفات هنري ميلر وحماقاته، وعصامية شارلي شابلن في مذكراته، وتقارير كازانتيكس في طريقه الى غريكو والمقابر الأربعة لمكتبة زافون ... و.. و .. و .....

وساعات وساعات ليس كمثلها ساعات تحج اليك العوالم وأنت قابع في مرقابك، سريرك الوثير، أسفار حفرت تأثيرها عميقا في وجداننا حفلت بها صفحات الكتب بإشراقات تمثلت بالإجابة عن أسئلة الوجود الكبرى استحصلناها من بطون كتب من مثل (رأس المال) و (هكذا تكلم زرادشت) و (الوجود والعدم) و (أصل الأنواع) و(مقالات مونتاني) 

و(النزعـات المـــادية لحسين مروة) و(الثابت والمتحول) و(الأخـــوة كــرامـــازوف).. 

و.. و .. وكم جنحت مخيلتنا في تحليق متعالٍ مع مغامرات واحداث (الف ليلة وليلــة) و(الديــكــا ميـــرون)و(حول العالم في ثمانين يوماً) وأعمال اكزوبري و.. و .. ضحكنا كثيرا وتألمنا أكثر وتعاطفنا وكرهنا وأحببنا وتعلقنا ودهشنا وانفتحت في مسالك عقولنا مغاليق لم نك نعرف يوما أنها ستنفتح.. كل ذلك وغيره عشناه وكأننا واقعون في غلالة حلم عظيم أو تحت سطوة سحر ليس من سحر يشبهه.. وأنت تجول في جنائن هذا العالم الفسيح أو في أتون حرائقه، تنتابك هواجس شتى ربما يلخصها سؤال الوجود الأول: من أين وإلى أين؟ ولكن هل حظي فلاسفة الإغريق، أو حكماء الصين، أو متصوفة بغداد، أو مفكري العصور جميعهم، حتى اللحظة الحاضرة بإجابة أخيرة 

له؟

-لست أظن..

  إنَّك تبحث عن خلاص وتجد في السير باتجاه لقائه، نعم، ولكن من قال أنك على الجادة الصحيحة؟ ثم من قال إن ما تبحث عنه، مكابدا شتى المحن، موجود في العالم الذي يتخطى ذاتك؟ أم هو العكس، أنه يقيم في تلافيف ذاتك ولست 

تدري؟ 

أيكون مأزقا وضعت نفسك فيه؟  ربما.. ذاك ما تورطك فيه الكتب، ولكن.. دائما، ولكن.. ليس مهما أبدا الوصول إلى خلاص.. هذا ما قرره عديد الكتاب الذين تورطوا قبلك.. المهم أن تجد مجاهدا في محاولة الوصول إليه..

في النهاية

في مشهد "الراهبات" لهاملت شكسبير صدمنا بالسؤال الأعظم في الوجود، على وجه الإطلاق "أكون أو لا أكون؟ تلك هي المعضلة"، وبالنسبة لمن ظل هذا السؤال يؤرقه، ينغص عليه طمأنينة عيشه، يسري كما الدم في شرايينه واوردته، يدق، كطبل مصم، ليل نهار في صدغه، يلوب باحثا عن إجابة كافية شافية… بالنسبة لكائن هذا وصفه، لن ينجيه من الزوال كقدر محتم، سوى أن يشرع قاربه مبحرا في عباب محيط الحياة 

المجهول الذي لا سواحل تحده، وليس من قارب نجاة له سوى الكتاب، وقد قال ذات يوم "سامسا" كافكا حتى وإن كان وهما جميع ما اعتقدته، فإنني أريد أن أكون جديراً به في كل لحظة.

لذا ما دمت تتنفس قراءة، وما دامت غواية قرائح الكتاب تنشط بوتائر متصاعدة، وما دام زخم الفضول حيا ينبض في صدغك، قل لروحك والعالم ممتنا: شكرا لهذه النعمة الفائضة..

وتمنى من صميم قلبك أن تحوز عشبة الخلود التي أفنى جدنا كلكامش عمره من أجل العثور عليها، لتظل ترتشف خمرة الكتب التي لا تعادل نشوة ارتشافها نشوة ارتشاف كل خمور الأرض الفانية.. خمرة تظل سارية في شرايين الروح كما نهر دائب 

الجريان، مثلما هو نهر الزمن، كل موجة فيه لها مرأى ونكهة مختلفتان في كل مرة.. خمرة تجعل منك مكتمل العزم على العيش بأنفاس متجددة، لتمد ساقيك مطمئنا رخيا، في جداول حياة قطوفها

دانية.