لنْ یغلبَ عسرٌ یُسرین!

الصفحة الاخيرة 2019/04/22
...

 جواد علي كسّار
عندما تنقطعُ بالإنسان السُبل وهو في محنته، يستحضرُ خزينه جميعاً ويستنفرُ قواه كافة، لكي يخفف عن نفسه. وفي أزمة شديدة الوطأة مرّت عليّ في شهر رجب من إحدى السنوات، أخرجتُ من خزائن نفسي ووجداني وذاكرتي، أدعية وأذكاراً كثيرة لكي أسلي بها عن نفسي. لكنْ لمدة معينة لم أتذكر قوله سبحانه: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾ (الانشراح: 5 ـ 6) ثمّ تذكّرتها في شهر رجب، وذكرت معها ابتسامة لرسول الله صلى الله عليه وآله حين نزلت عليه السورة، تعبيراً عن سروره بها، وحديث قاله عن الآيتين، لم أستطع يومها استحضار نصه.
رجعت إلى المصحف الشريف ورحت أقرأ السورة وأنا أعجب لغفلتي عنها، مع أنها أفضل وسائل مواساة الإنسان، وهو يمرّ بساعة عسرة ومشقة وحرج، إذ ما أحلى قوله سبحانه يردّده الإنسان كلّ لحظة من لحظات محنته: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾. وقد لفت نظري ما ذهب إليه الطباطبائي (ت: 1982 م) في تفسيره "الميزان في تفسير القرآن"، إنَّ من سنن الله سبحانه في الكون "الإتيان باليسر بعد العسر".
لكن كانت فرحتي مع السورة أكبر وأُنسي بها أكثر، حين عدتُ إلى بعض الأخبار التي وردت من حولها، خاصة الآيتين: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾ ورسول الله صلى الله عليه وآله يضحك، ويقول: "لن يغلب عسرٌ يُسرين، فإنَّ مع العُسرِ يُسراً، إنَّ مع العُسرِ يُسرا".
لقد قرأتُ في كتب التفسير عن ابن عباس (ت: 68 هـ) أنه كان يقول في تفسير الآية: "يقول الله تعالى: خلقتُ عُسراً واحداً، وخلقتُ يُسرين، فلن يغلب عُسرٌ يُسرين" (مجمع البيان، ج 10، ص 650). واضحٌ أنَّ ابن عباس أخذ المعنى من النبوي الشريف: "لن يغلب عسر يسرين".
لكنَّ هذا المعنى الموحي الإيجابي قد يصطدم بمشكلة، وهي أنَّ الآيتين تذكران "العسر" مرتين، كما تذكران "اليسر" مرتين أيضاً، فكيف نتحدّث عن يسرٍ واحدٍ وعسرين؟ الجواب يأتي من اللغة العربيَّة، فقد ذهبت العرب، إنك إذا ذكرت نكرة، ثمّ أعدتها نكرة مثلها، صارتا اثنتين، كقولك: إذا كسبت درهماً فانفق درهماً، فالثاني غير الأول. أما إذا أعدت اللفظ معرفة، كقولك: إذا كسبت الدرهم فانفق الدرهم، فالثاني هو الأول.
بتطبيق هذه القاعدة على الآيتين، حيث "العسر" معرّفة في الآيتين أيضاً، ما يدلّ أننا أمام يسرين وعسر واحد، والمعنى المراد أنَّ مع العسر يسرين، و"لن يغلب عسرٌ يُسرين" كما في المروي عن النبي صلى الله عليه وآله.
هذه ومضات سجّلتها من وحي محنة شخصيَّة، وقد وضعتني مباشرة أمام المعنى الذي يفيد بأنَّ العلاقة مع القرآن الكريم، لا ينبغي أنْ تكون من خلال التفسير وحده، بمعناه المنهجي والوظيفي، فباب التأمل في القرآن مفتوحٌ، بحيث يكون بمقدورنا أنْ نأخذ من أنواره قبساً.