الخيال يحمل الواقع في عربة الحلم
د. صبري خاطر
لا أقرأ عادة كي أكتب عما أقرأ. ربما أعيش مع الكاتب أحلامه، ولكن لا أود أن أشاركه أو لأكن أكثر صراحة، فأقول لا أود أن أعارضه في طروحاته التي لا بد أن تحملني للنقد حين تحاصرني التفاصيل ولا أجد مخرجا إلا هذا الباب. إذن أنا ممن يوصي نفسه دائما بمتعة القراءة دون أن يفسدها بما يخدش موهبة الآخرين.
وحين قرأت قصص (تعويذة نيرغال) وهي من منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، وجدت أن شيئا ما يصرخ في داخلي: اكتب عما قرأت فليس الكتابة هي بحكم المندوب دائما وإنما تتحول إلى واجب حين يعتلي الكاتب منصة الإبداع، ومن ثم لا بد من الحديث إليه حديث المحب الذي هو مثل الماء التي تسقى به الورود كي تظل نظرة. تنتشر منها رائحة الأمل بأن تستمر الحياة في نسغ الإبداع نحو المستقبل.
كاتب هذه المجموعة من القصص هو مهند الكوفي ويبدو من خلال ما يكتب أنه لم يزل في مقتبل عمره، يحمل قلمه مثلما يحمل السيف قويا، كي يشق طريقه في زحمة ما يكتب في سبيل أن يتفرد بأسلوب لا يختلط بالغث. اسلوب ينمو في حديقة الإبداع ليكون ما يكتب به شجرة يستوحي منها من كان موهوبا مثلما استوحى نيوتن من شجرة التفاح قانون الجاذبية. فالكاتب ينتقل من واقعة إلى أخرى في القصة الواحدة رغم التباعد بين الواقعتين، ولكن يجمع بينهما مثلما يجمع الملحن بين مقامين دون أن تشعر بأي نشاز في الموسيقى. والكاتب يستخدم الحلم ليربط بين الواقع والخيال حتى يطرح المعنى الذي يرمز إليه في قصصه القصيرة.
في قصة (نهر أكمل عدته) يتحدث عن قرية جف النهر فيها وسادت الوحشة. لم يعد فيها إلا الموت ليأتي إليها رجل من المجهول ليكتشف ما حل بالقرية من موت كئيب. هذا الموت الذي يصر الكاتب على أنه حدث بأبشع الوسائل التي يمكن أن تحدث. إذ يصفه بعبارات مبتكرة عجيبة مثل (رأى جثة رجل عجوز قد بيض الشعر مفرقها ويدها في بطن حمار متعفن) ومثل عبارة أخرى هي (ليدخل بيتا ثالثا: رأى فيه ثلاث جثث لأسرة شنق أفرادها بذيول الحمير). ويصف الكاتب كيف حاول هذا الرجل تخليص القرية من رائحة الموت رغم ثقل ذلك ورغم المعاناة الخطيرة التي تتحول إلى أشباح تهاجمه في الحلم إذ يرى فيه ناسا (قاموا بجره في الشوارع الترابية فقضمت الكلاب جهازه التناسلي وهو يصرخ بجزع، شرب الأطفال من دمه، ولعقت النساء عرقه، وأكل الرجال شعر رأسه والعانة). وإذ نجح الرجل في التغيير عكف ليكتب في دار في القرية ما توصل إليه من علم إلا إنك تفاجأ بأن القرية يدخلها البشر المتوحش من جديد ويكتشف وجود الرجل في معتكفه. وإذا بهذا الرجل يصبح في عيون البشر مجنونا. ويعكس الكاتب كل ذلك من خلال الحلم على شخص آخر في الواقع يرى الناس أنه مجنون. فهل حقا أن هذا الرجل مجنون؟
هذه القصة ترمز بثقل أدبي كبير إلى الدعوة لإعادة اكتشاف شخصية الإنسان بعد أن أحاط بها الضباب.
أما في قصة (قادم من الموت غارق في الحلم) فالكاتب ينقل لنا المحنة التي مر بها بلده. إذ يلتقي بالموت، وهو يقول (التقيت بجثة ذات مرة كان لقاؤنا مراسيم عزاء. آنذاك يدفعني للموت. حديثنا حزن عجوز تائهة، وقتها الرائحة أكثر منا الأوكسجين الذي أراه منتشرا أمامي بلونه الأزرق). وهو حين يطرح هذا الهم الثقيل يحمله الحلم إلى عالم آخر لينتقد من هاجر دون أن يفكر في وطنه، بل ليرتكب اثم اصطياد الطيور. أي يهاجر في رحلة عبثية لا معنى لها، ثم يضع بطل القصة نفسه في صورة العاشق الحالم الذي يحاول أن يلتقي بالمرأة التي تمنحه الدفء، لكنه في النهاية يعثر على كلب ضائْع يعيده لصاحبه دون أن يجد في ذلك ما يعيده إلى الحياة الحقيقية، لأن صاحب الكلب بدوره رجل يدفن الموتى إذ يقول له (عزيزي سعيد أنا مؤمن بنمو الأشياء الميتة، مثلا عندما أدفن شخصا ما، أحسبه حبة نبات، اسقيه لمدة شهر كامل في الأقل إن لم يخرج عوده وينبت أحسبه شخصا غير صالح). وهنا يريد الكاتب أن يقول إن الإنسان يحيا في بلده، بل يستطيع أن يصنع من الموت الحياة لأن الموت ليس بالضرورة هو النهاية وهو يطرح بذلك مضمونا فلسفيا يحذر من عدم فهمه لأنه بدونه ينتهي الإنسان إلى مجرد وهم يلعق كلب ضال قدمه.
وفي قصة (رجل لا آخر له) يتحدث عن شخص يدخل السجن ومسار القصة يفيد أنه دخل السجن من أجل مبدأ يؤمن به. إلا أنه يفاجآ بالموت حين يخرج ويجد خارج السجن سجنا أكبر وأخطر، موتا من نوع آخر لا يعيد الحياة. لذلك كل من في هذا السجن يريد أن يعود إلى السجن الأول، إذ يقول (كنت أسير على الطريق، فاصطدم بمن يريد الرجوع إلى المكان الذي خرجت منه. ليس من تفكير – فيما ذا أفكر – توارى النهار واضمحل النور ولمت الشمس وشاحها عن سهول المنفى) ثم ينتهي إلى القول (أنا سجين تلك الحياة الحزينة التي لا باب لها). ثم يبدأ بوصف الحياة التي خرج إليها بما يثير كثيرا من الأسى (خرجت من البيت وقت صارت فيه الطيور تمشي على الأرض متخذة من السيارات المحروقة وفوهات المدافع والدبابات المعطلة والتوابيت المتراكمة في الشوارع أعشاشا لها). هذا الأسى هو نهاية الحروب حتما وهذا الحدث في بغداد - كما يقول الكاتب- ثم يوغل في وصف الأسى في ألوان من الموت كطفلة يخترق الرصاص رأسها وشاب بلا رأس. وهو في كل ذلك يتخذ موقفا واضحا ضد الحرب ويؤمن بالسلام. ولذلك يدعو إلى النجاة لتحمل عبارة الموت ذاتها ما يحذر منه وما يستفز روح الحياة المقاومة. وهكذا يسرع للخروج من هذا اللون الحزين، ولكن دون أن ينسى أن الموت تجربة وليس عدما لا نفكر فيه. انظر كيف يعبر عن ذلك بالقول (خرجت مسرعا وددت انجو سالما من الأفكار التي راودتني، أردد جملة: الحياة هي تشبث شعر الميتين في أسنان المشط بعد رحيلهم). والقصة لا تخلو من المقارنة بين حالة الخراب والموت تمثلها سيارة الموتى وبين حالة الحياة التي تمثلها ماريا المرأة.
ولعل الكاتب يصل إلى الذروة في التعبير الأدبي في قصة (هيكل عظمي لكاتب ما)، فيصرح في المزج بين الخيال والواقع ويستوحي من ثقافته المتألقة هذا المزج المبتكر حتى أنه يستحضر الكاتبة نوال السعداوي في إشارة إلى أن العقل الباطن يسهم في فهم الحياة.
وفي هذه القصة يرجع إلى فكرة الموت أكثر مما طرحها من قبل. فهو يطرحها بمعانٍ جديدة ليس الغرض من ذلك – كما يرى - أن نعيد الموتى للحياة كي نبدأ (لا تصرخ الأموات نائمون، احذر أن يستيقظوا)، بل هو يدع في قصته الموت يتسلل في حلقات ترتبط إحداهما بالأخرى حتى يموت من يحمل الإنسان إلى الموت. ولكن لا يمنع كل ذلك من أن تستمر الحياة، بل ما ابتكره الٌإنسان قبل الموت هو النمو الجديد. فكل ما طرحه الكاتب لا يعني أنه ينعى الحياة وإنما الحياة لا تدع للموت إلا هياكل أما ما تبقى فهو نسغ البداية الذي يمنح القوة للمضي نحو المستقبل بخطى تجاوزت كل ما يعيق تلك الحياة.
في قصتين أخيرتين يعيدك الكاتب إلى الواقعية ليقول في قصة (ما يسقط من التاريخ) أنه لا يجوز أن نبني الحياة على الماضي وإنما المستقبل هو المضي إلى الأمام لأن بناء بيت من الآثار سوف يهدم ويدان صاحبه، وذلك في طرح رمزي يثبت أن الإيمان بالمستقبل هو المطلوب. ومن الخطأ أن ندع الوعي يسقط تحت أقدام الماضي. وفي قصة (ينتسب المرء لموته) يدعو الكاتب إلى العناية بتربية الأطفال وعدم وضع مشاكل الحاضر في عقلهم الباطن، لأن ذلك يؤدي إلى نفوس مضطربة، فالمرأة التي تصطحب طفلها ليري رجلا ميتا تضع في ذاكرته هواجس مخيفة ربما تؤثر على الرؤيا في المستقبل لديه. وفي هذه القصة تأكيد واقعي على أن تعاقب الأجيال هو حدث يساهم فيه الإنسان ولا يحدث بحكم الواقع. قراءة قصص الكاتب مهند الكوفي تنبأ بأنه واعد بالمزيد من الإبداع. وأن لديه قدرة على استخدام الرموز في صياغة معاني عالية المستوى. أشد على يده في أن يظل في هذا المسار المتميز وأهمس في أذنه بأن يخفف من وصف المأساة مخافة ألا تستطيع القلوب أن تتحمل من الأسى، ما يزيد عن الحدود المألوفة دون أن يعني ذلك أن مهند لم يكن مبدعا حتى في وصف الحزن والموت، فالمشكلة أحيانا تكون عند القارئ وليس مشكلة الكاتب.