الفلسفة وأسئلة الحياة اليومية

آراء 2019/04/27
...

علاء هاشم

بعد عودتها إلى مكانتها في دائرة الضوء والاهتمام، تبين أنَّ الإعلان عن موت الفلسفة في القرن العشرين كان بياناً متسرعاً وتشخيصاً للوفاة قبل الأوان، فما دام الانسان يتساءل عن قدره ووجهته في الحياة فإنَّ الفلسفة ستجد مكانها في الفكر الإنساني، بيد أنَّ آراء الفلاسفة لم تعد مجرد نظريات وأفكار حول الوجود والإنسان وماهيته ومصيره وحسب، بل أصبحت تدخل في صلب الأسئلة اليومية، التي لها علاقة بتكوين مجالات جديدة تصوّر العيش على نحو فلسفي، وتُدخل هذه الصياغة الفلسفية تجارب الذات ومكتسباتها بعلاقة متشابكة مع تجارب الآخرين، الأمر الذي يعتبر شرطًا أساسيًّا لتشكل كل ذات وفق ما هي عليه، ومحفزًا لها على البناء. بمعنى أنَّ الممارسة الفلسفية لم تعد تقتصر فقط على بناء مفاهيم وأنساق ومدارس فكرية، يتم نقلها من جيل إلى جيل آخر، بل أصبحت تؤسس لنمط حياة، يمنح كل المجالات والمباحث الفلسفية فرصة أن تحيا تجربة وجودية وليست مشكلات إبستمولوجية معرفية صرفة.
أطلق الفيلسوف الفرنسي المعاصر أندريه كونت سبونفيل في وجه فلاسفة فرنسا عبارة "تزحلقوا أيها الفانون، بخفة، فالجليد هش تحت أقدامكم"، محاولاً تعميم التفكير الفلسفي على فئة عريضة من الناس، ومشاركتهم الأفكار حول طبيعة الحياة، ليجعل من الفلسفة جهداً فكرياً يُطبّق على الحياة، على اعتبار أنَّ مهمة الفلسفة منذ نشأتها هي استكشاف أفضل طرق الحياة وأحسن طرق الحصول على السعادة، وأنجح الطرق للبحث عن عالم أفضل، رغم أنّها لا تجيبنا عن تساؤلاتنا الأعمق، حيث لا مكان فيها لإجابات قاطعة، ولم تسعف يوماً من يبحثون عن إجابات جاهزة بلا عناء، ولكنها بالنتيجة ترتبط بأسلوب معين في الحياة والوجود. فيقول سبونفيل "نحن لا نتفلسف لتزجية أوقات الفراغ ولا للعب بالمصطلحات، نتفلسف لإنقاذ حياتنا وأرواحنا"، لأنَّ التفلسف يتماهى مع الطبيعة الإنسانية في أسمى تجلياتها، حيث كل فكرة من أفكارنا هي إنسانية وذاتية ومحدودة بتجربة وجودية؛ فأن نعيش يعني أن نتغير، والتغيّر ليس هدفاً بل ضرورة وسيرورة. وما يحركنا تجاه الحياة، هي رغباتنا التي لا تتوقف، حيث تقترن هذه الرغبة بالخوف الدائم والأمل. وبالنتيجة فإنَّ الإنسان ذلك الكائن ذو المزاجية المتذبذبة والمشاعر المتأرجحة ما بين الحزن والفرح والغضب والإحباط وغيرها من المشاعر، وقد يصل الأمر به لأن يشعر بإحساسين مختلفين في نفس الوقت، هذا الكائن جعل الفلاسفة يقتربون منه ويطرحون حوله الأسئلة ليتبين وضعه في العالم وما الذي عليه أن يواجهه في حياته؛ فجعلوا الفلسفة ذو مسحة علاجية مرتبطة بالحياة، بالحب، بالسعادة، بالحقيقة، بالحرية، وبأسئلة الحياة اليومية.
بما أنَّ سبونفيل لم يطرح الفلسفة بوصفها معرفة نظرية مسرفة في الخطابات والمفاهيم والإشكالات المعرفية، وعلى هذا الأساس، أصبح لدينا جهداً فلسفياً لا يمكن تصنيفه داخل أي مدرسة أو اتجاه أو حركة أو تيار، لأنّه يتخذ من الانفصال طابعه الخاص. هذه الروح الجديدة تشير إلى أنَّ هناك أثراً فلسفياً بدأ يترسخ ويشتد، يختلف عما كان سائداً، حيث يجعل الفلسفة نوعاً نادراً من العلاج لأكثر الأمراض تفشياً واستعصاءًا في العالم المعاصر، وليست تكراراً لنظريات جامدة واجتراراً لما قيل ويقال، أو إغراقاً في توليد وتجريد المفاهيم.