د. أحمد جارالله ياسين
شهدت مدينة الموصل افتتاح جدارية (الموصل بين ربيعين) للفنانة التشكيلية فرح اليوسف، وبطول بلغ ستة أمتار زيّنت مؤسسة (تراث الموصل) التي يقع مبناها على ضفاف دجلة في الجانب الأيمن من المدينة، وقُدمت الجدارية في حفل خاص بها حضره جمهور كبير وبدعم مشترك من مؤسستي تراث الموصل وغوته الألمانية، وسبق عرض الجدارية حوارٌ مفتوحٌ أمام الجمهور مع الفنانة أجراه د.أحمد جارالله حول مسيرتها التشكيلية ولا سيما عملها في الجدارية الذي استغرق عاما كاملا من الاشتغال عليه بمادة الألوان الزيتيَّة.
تحمل الجدارية جانبا توثيقيا لتاريخ المدينة الذي يرتكز على تقنية الاسترجاع كما في الأعمال الروائيَّة، ذلك أنَّ قراءة اللوحة إن بدأ بها المشاهد من جهة اليمين، سيرى فيها ضفة خضراء مزدهرة بالورود لا سيما شقائق النعمان والبيبون التي تمظهرت بقعها الحمر والبيض على أرضية خضراء بمهارة انطباعيَّة كبيرة، كما أنّها حفلت بحركة لطفلين فرحين يركضان برفقة طائرتهما الورقيّة دلالة على الحياة وحركتها في المدينة، بينما يتموضع جالسا رجلٌ عجوزٌ بزي موصلي شعبي، ينظر بقلق إلى الأفق البعيد والمعمار الموصلي التراثي المطل على دجلة والمعروف بمنطقة (الميدان) حاملا مخاوف من خطر قادم إلى المدينة يتمثل لاحقا بالعصابات الإرهابية التي ستحتل المدينة التي تمظهرت علاماتها التاريخية والاجتماعية والوطنية بهذا التشكيل الرمزي الذي برعت فيه الفنانة بجمع المعمار الديني وسط اللوحة تقريبا للطوائف المسلمة برمز منارة الحدباء، والمسيحية برمز كنيسة الساعة المعروفة، والإيزيدية برمز المراقد الدينية ذات القباب المثلثة.
وكانت تلك الفكرة تكثيفا رائعا لهوية الموصل القائمة على التنوع الديني والقومي الذي سعى الإرهاب إلى خلق فتنة بين مكوناته بالقتل والتهجير والاحتلال، وهذا ما تمظهر في الجانب الأيسر من اللوحة عندما تنعطف مكوناتها من المظاهر المعمارية التراثية والدينية إلى مظاهر الخراب والدمار والأنقاض، ومشاهد الموت والجثث والشخوص الضحايا الذين يصرخون ويرفعون الأيدي احتجاجا واستنكارا ورغبة بالخلاص، وغطت الألوان الرمادية والطينية على المساحة اللونية في اللوحة هنا في هذه البقعة، للتعبير عن الموت الجماعي الذي تعرض له المدنيون فامتزجت أجسادهم بالطين والأنقاض التي اعتلاها شخص ضبابي الملامح يرمز إلى قوى الإرهاب وهو يحمل سيفا يقتل به الناس بينما غطت الأفق سحب الدخان والنيران وبعض الطيور السود ذات الذيول والأجنحة الدخانيّة معبرة عن قسوة المشهد وعنف الحركة فيه.
لكن الفنانة حاولت الخروج من هذا المشهد الدموي تدرّجا بالانتقال في أقصى يسار اللوحة لونيَّاً من الألوان الطينيَّة والرماديَّة إلى اللون الأخضر الذي يرمز إلى عودة المدينة إلى ربيعها مجددا بعد تحريرها ونهضتها من الخراب الذي حلَّ بها، فضلا عن صفاء الأفق البعيد وعودة الزرقة المشمسة الربيعيّة إليه، لتنتهي اللوحة من سردها الوثائقي التشكيلي لما مرت به المدينة في نكبتها تلك ثم نهضتها، وهذا ما حرصت على التعبير عنه الفنانة فرح اليوسف التي ترى في اللوحة ليس عملا تشكيليا فحسب، وإنما هي عمل تاريخي توثيقي يحفظ للذاكرة البصريّة بالفن ما حلَّ بالمدينة ويظل شاهدا تشكيليا وتاريخيا عليه أمام المتلقين على مدار عمر اللوحة التي شاهدها جمهور كبير وباتت علامة مهمة من علامات الفضاء التشكيلي في المدينة.