باسم سليمان
يقدم فيلم «بلاك بيلاي» (2023) سيرة حياة أول هاتف نقال ذكي حظي بكيبورد كالكومبيوتر، واستطاع الولوج إلى الإنترنت، وإرسال الإيميلات، والكثير من رسائل المحادثة؛ وكل ذلك في جهاز واحد تحتويه راحة اليد. في ذلك الوقت من أواخر عقد التسعينيات من القرن المنصرم، والسنين الأولى من الألفية الثالثة، كان جهاز بلاك بيري العصا السحرية للاتصال، فقد غيّر طبيعة العلاقات البشرية بالتواصل؛ من اللقاء الواقعي إلى اللقاء الافتراضي.
صعدت الشركة الكندية المصنّعة لهاتف بلاك بيرى كالصاروخ، وكأنّها نابليون بونابرت، الذي غيّر وجه أوروبا إلى الأبد، حيث سيطرت على 45% من سوق أسهم الاتصالات، ومن ثم هوت كالنيزك. لقد تأسّست تلك الشركة ذات العلامة الفارقة في تاريخ الاتصالات على يد كل من العالم مايك لازاريدس (جاي باروتشيل)، مع صديقه دوغ فريديان (مات جونسون) والمدير المالي جيم بالسيلّي( جلين هورتون).
استند المخرج مات جونسون في السيناريو الذي وضعه لفيلمه على كتاب (ضياع الإشارة)، الذي يؤرخ لصعود الشركة، التي أبدعت البلاك بيري على قمة جبل صناعة الهواتف. ومن ثمّ تدحرجها نزولًا كانهيار ثلجي؛ هكذا أصبحت للشخصيات الاعتبارية سيرتهم الذاتية، كما للأشخاص الطبيعيين. لم يذهب جونسون الذي لعب دور دوغ فريديان؛ الصديق المقرّب للعالم مايك لازاريدس لتقديم توثيقية إحصائية وجداول بيانات فقط، بل عمل على دراسة العلائق الجدلية بين الفكر المالي الرأسمالي، الذي لا يعترف إلّا بمبدأ الربح ممثلًا بجيم بالسيلّي، والعلم المحض. قبل أن ينجذب إلى دورة رأس المال من خلال العالم مايك لازاريدس. وبينهما ينوس دوغ فريديان، معبرًا عن أهمية العلاقات الإنسانية في مواجهة المال والعلم.
من هذه السيرة الذاتية لهاتف البلاك بيري، وضع مات جونسون السيناريو، الذي كتبه بالاشتراك مع ماثيو ميلر، ليكون خليطًا من الكوميديا والأمل والتعاطف بين فرقاء الشركة، معبرًا عن روح العلم والإنسانية، قبل أن ينضم إليهم جيم بالسيلّي، ممثّلًا لشيطان رأس المال، لتنتهي تلك السيرة بشكل تراجيدي. لقد كان مايك مهووسًا بالدّقة والجودة العلمية، قبل أن يتعطّر برائحة رأس المال، فعندما ذهب إلى أحد رؤوس المال، كي يعرض عليه اختراعه الجديد، ويتحصّل منه على استثمار في مشروعه، انشغل بتصليح أحد الأجهزة الصينية، حتى كاد ينسى لماذا جاء. بعدما أخبره جيم بأنّ الكمال لا يجلب الخير! وما قصده، بأنّ الربح، لا جودة المنتج، هو ما سيصنع المجد للشركة.
استطاع جيم أن يحلّق بالشركة سريعًا، فاشترى المهندسين من الشركات الأخرى، وتلاعب بالأسهم تحت غطاء النجاح الكبير لهاتف بلاك بيري، الذي أصبح علامة للتقنية التي ستقود مستقبل الاتصالات. هذا الواقع الجديد بدّل من أخلاقيات مايك العلمية ودفعه للانخراط في السعي وراء الربح. حاول دوغ الصديق القديم لمايك أن ينبّهه، لكن العالم المفتون بالربح، تناسى الجودة والسعي وراء الاكتشافات الجديدة. لم يستمع مايك لصديق عمره، ممّا أدّى إلى انسحاب دوغ من الشركة، التي بدأت علائم المرض تظهر عليها. خاصة بعد أن بدأت تحريات أجهزة الرقابة المالية عن نشاطاتها المالية المريبة.
وجاء عام 2007 وظهر ستيف جوبز بهاتف iPhone مع شاشة اللمس. رفض مايك التقنية الجديدة التي أبدعها ستيف وانتقدها، وحكم عليها، بأنّها محكومة بالفشل! وكأنّه أصيب بالحكمة المحذّرِة، بأنّ رأس المال جبان، ولن يستثمر في تقنية سخيفة، فمن سيستبدل أزرار البلاك بيري بلمسات الأصابع على الشاشة! هكذا هرب العالم من ضوء العلم إلى ظلمة المال، وأراد أن يغرق السوق بأجهزة بلاك بيري كأي تاجر، وإن لم تكن بالجودة المطلوبة، حتى يسيطر على سوق الهواتف بشكل نهائي. لقد تناسى انتقاده السابق للصناعات الصينية ذات الجودة السيئة، إبّان مقابلته لأحد رؤوس المال لكي يأخذ منه تمويلًا من أجل البلاك بيري. والآن يرتكب الخطأ ذاته الذي جعل من المنتج الصيني رمزًا لسوء الصنع في ذلك الزمن، فخرج هاتف البلاك بيري معيبًا بعد أن كان مثالًا للتقنية والجودة. ينتهي الفيلم ونحن نرى العالم مايك لازاريدس أمام كمية هائلة من الصناديق الكرتونية، والتي تحوي هواتف البلاك بيري منشغلًا بإصلاحها جهازًا وراء جهاز! هل استفاقت روح العلم فيه من جديد، أم أنّه أصبح ملوثًا بفايروس المال، فعندما حاصرته الإدارة الضريبية بالاتهامات أخبرهم بأنّ جيم بالسيلّي هو المدير المالي. استطاع أن يهرب من المسؤولية إلى حدّ ما، لكن شركة بلاك بيري سقطت من علياها، بينما ستيف جوبز يحلّق عاليًا. يطرح الفيلم أسئلة مضمرة في ثنايا تصويره لتاريخ ولادة هاتف بلاك بيري وموته، تزداد حدّتها يومًا وراء يوم، عماهية العلاقة السوية والأخلاقية بين رأس المال والعلم والإنسان.