حازم رعد
لعله من الواضح أن الفارق الجوهري بين الإنسان وسائر المخلوقات هو توفر الإمكانية عند الأول على التفكير بينما سائر الكائنات نامية وحاسة وتعمل بغرائزها بالمطلق وبحسب تعبير أهل المنطق أن العقل هو الفصل المقوم للإنسان عن باقي الأنواع التي يشترك معها في الجنس. ومن الواضح جداً أنه لا يقتصر فعل التفكير على تلك العملية التي تشبه التأمل واستبطان الأشياء بصورة سطحيّة لأن ذلك ينتج أفكارا هامشيّة لا تغطي الواقع ولا تبصر الطريق أمام السالك وتخلق اطراً نظرية ساذجة، بل التفكير المطلوب عملية حفر معرفي بتعبير فوكو في طبقات النص «سواء كان ذلك النص إنسانا أو نصوصا معرفيّة وأفكارا أو أشياء وأحداثاً» فإن هذه كلها نصوص وتتوفر على تفصيلات ومعلومات ويمكن اثراء المجال العام بالأفكار التي تكتنزها، ولكنها متخفية وغير مستنطقة.
إنَّ عملية التفكير التي نقصدها هنا في حديثنا الآن هي مجموعة «استراتيجيات فلسفية» للتحليل الصارم للأشياء بتقسيمها وتجزئتها وفحص عناصرها بدقة عالية، وثم قراءتها بتأنٍ وعمق كبيرين، ومحاولة إبطال النتائج الظاهرة من خلال طرح الشكوك على الحدث والفكرة لا بغرض الإساءة أو أنّه غير مهم وإنما تكون شكوكا منهجيّة غايتها الوصول إلى حقيقة الشيء وفهمه وإدراك جوهره الحقيقي بدل التعلّق بمعطيات بسيطة لا تغني ولا تسمن.
ويمكن أن يأخذ التفكير معنى كونه مراجعة نقديّة مستمرة لكل ما يرد على الانسان من أفكار ويحصل بين ظهرانيه من أحداث ووقائع، وهذه المراجعة هي بمعنى من المعاني اعادة طرح السؤال على الاجابات الاولى والثانية وهكذا دواليك لأجل الحصول على يقين من صدق الاجابات والمدعى والنتائج الظاهرة.
وإذن، ان التفكير ليس تلك الطريقة التلقائية للتعبير عما يجول في الخاطر فقط في حالته العفوية، وليس ايضاً تلك العملية التأملية البسيطة التي يتعرض بها الانسان للأشياء، وانما هو «استراتيجيا فلسفية» يتم من خلالها التعرض للعالم بأشيائه وأشخاصه ومحاولة الكشف عنها وتحقيق التجديد فيها وقراءتها بالطريقة التي تنسجم مع الراهن المعاصر لتقيد في وضعية الانسان بوجوده الحاضر المتأثر بمشكلاته وصعوباته وأحداثه وهذا ما نصطلح عليه الفلسفة روح عصرها ونتاج الثقافة والاجتماع الذي تسود وتقطن فيه.
نعم ان الفلسفة لا ترى ضرورةً على الانسان ان يكون بحجم افلاطون او ماركس او ابن رشد ومن هو على شاكلتهم، بقدر ما تريد من الانسان ان يفكر «فقط يفكر» ويُعمل عقله في الاشياء ويحكم هذه القوة في الاحداث والاشياء والافكار، بحيث إذا عرضت عليه فكرة ما مهما كان مصدرها، فلا يكون غبياً بإفراط ويسلّم بها تسليماً مطلقاً من قبل ان يفحصها ويحللها ثم يحكم عليها بالرفض أو القبول أو تعليق الحكم.
فضلاً عن أن الاستمرار على التفكير ومزاولة نقاش الأفكار والاحداث تأملياً ونقدياً هي ما يوسع دائرة الفهم عند الإنسان ويصعد من نمو عقله، إذ الاخير ينمو وينضج وتتسع من فسحاته بديمومة مزاولة التفكير ومطارحة الأفكار مع بعضها ونقاشها سواءً بشكل فردي أو جماعي وإن الاخير أكثر إفادة لأنّه يثرى من الآراء والعقول الاخرى التي تمده بما هو جديد او قديم يتم اخضاعه تحت مشارط النظر والتفكير.
على ذلك يقع التفكير في سياق الاولويات في مساق الممارسة الانسانية اذ به يعرف ويحد ومن خلاله يمهّد مقدمات التصرّف ويعد الارضية النظرية لكل فعل وتوقع مستقبلي ولو لا التفكير لأصبحت وامست سلوكيات الإنسان ركام من الفوضى والعشوائية التي يرتطم بعضها ببعض ومع الاخر وصارت حياة الناس عبثا وخلوا لا يطاق، إذ حياة فير منظمة بالأفكار هي حياة خالية من المعنى وسارحة في فضاء هلامي من الهامش والعشوائية والضبابية، لذا فإنّ أولى الخطوات التي من الواجب ان يقوم بها الإنسان هو أن يفكر ويقطع إجازة الاشتغال بعقله واستئجاره لغيره ليفكر بدلاً عنه، فإنسانيّة الإنسان رهينة عقله وممارسته القائمة على التفكير الواعي
والناضج.
ولكن المفارقة تكمن في أن أغلب الناس يفضلون عدم التفكير ظناً منهم ان في ذلك راحة من جهد وتعب أعمال العقل، ولذا تراهم يقعون في اخطاء شائعة مثيل التسليم المطلق للأفكار الوافدة وافكار السلطة «المهيمنة» من دون عناء فحصها وتحليلها، وكذلك نتيجة عدم التفكير يقعون في فخ التعميم واطلاق احكام القيمة على الاحداث والاشخاص والأفكار، وهذا لوحده يشكل عائقا معرفيا أمام الإنسان ويوقعه في شراك الجهل أو الوقوف على حقيقة الأشياء ومن ثم يكون شكل الممارسة أما خاطئاً أو مشوهاً، لأنه لم يعتمد التفكير والنقد واستخدام سائر أدوات العقل النظرية التي يحسن معها التصرّف والعمل.
هذا الذي اسميه العجز والكسل الفكري مآلاته خطيرة على الإنسان الفرد والمجتمع في آن واحد اذ بسبب ذلك تسيطر القوى المؤدلجة على البلدان وتحكم قبضتها على المقدرات وعلى الموارد البشرية وايضاً بسبب ذلك تطلق الأحكام القيمية الخاطئة مما قد يؤدي إلى الاضرار بالناس وبممتلكاتهم وأرواحهم وأيضاً بسبب عدم التفكير أو الطريقة الخاطئة في التفكير يرد البعض موارد الظلم والتعسف واختزال الآخر وقمعه وما الى ذلك من ممارسات هي بالإنسان نتيجة حتميَّة لمقدمة واضحة أما عدم التفكير أو الخطأ في طريقة التفكير.