حسن الكعبي
يوجه الفنان المسرحي عبد الجبار حسن نصَّه المسرحي الموسوم (ألواح الطف) الصادر عن دار الشؤون الثقافيَّة سلسلة الإبداع المسرحي في طبعته الاولى 2015- توجيها فلسفيا يقارب بين الملحمة السومريَّة (ملحمة جلجامش) وألواحها التي تضمنت سردا لدلالات التضحية بالذات في سياق الرحلة المضنية لملك - اورك - في بحثه عن عشبة الخلود لنفسه ولمملكته ولأبناء جلدته، وما توّج تلك الرحلة من صراع دراماتيكي أفضى الى تلك النهاية المأساوية لجلجامش وصاحبه - انكيدو- وبين واقعة الطف وألواحها التي ترشّحت عنها كبرى الدروس الفلسفيَّة في رحلة التضحية والفداء ومحاولة بناء منظومة لقيم العدالة والحرية، بوصفها قيماً تعمل على إزاحة طبائع الاستبداد والجور التاريخي الذي علق بالسلطات العربية التي حكمت السياق العربي الاسلامي باسم الدين، لينتهي المؤلف في سياق هذه الموجهات الفلسفيَّة الى الانحياز التام لواقعة الطف من منطلق المباني الالهيَّة والأبعاد الغيبيَّة الموجهة لرسالة واقعة الطف والمهيمنة على مبادئها الكبرى الكفيلة بجعلها - أي الواقعة - تتعدى حدودها الجغرافية والايديولوجية وتقيم خارجهما لتشكل عالميتها التي استحقتها من دون أدنى شك، كون الواقعة وتعاليمها الكبرى تعمل على بث ارساليّة إنسانيّة تتجاوز النسق الايديولوجي الذي انطلقت منه والحدود الجغرافية التي ضمت احداثياتها، وذلك ما يعمل المؤلف على إبرازه في سياق مقاربته الفلسفيّة. إنَّ القيم المتحيّزة التي توجه المؤلف للانتصار لألواح الطف رغم وضوحها وسيطرتها على دلالات النص لا تغفل الأهمية الإنسانية لإرسالية - ملحمة جلجامش - والواحها المتضمنة لمنظومة القيم التي تؤسس لمضامين الحرية والعدالة والتضحية ولا تسعى في سياقها المقارناتي الى ايجاد نسبة تنافسيّة تعلي من شأن هذه الارسالية او تخفض من شأن الأخرى، بل ان التحيّز ينطلق من مجال فلسفي يتلمس العمق الدلالي للإرسالية الانسانيّة في واقعة الطف واتساع رقعتها التي تجاوزت حدود المذهب والقومية والدين بل وتجاوزت حدود الذات في نطاق ذلك المسعى الفريد في تحقيق تلك المبادئ الكبرى التي بدأت تستلهم داخل المنظومات الانسانية وهي تسعى لتحقيق قيم الحرية والعدالة الاجتماعية، فالإمام الحسين (ع) وعلى خلاف - كلكامش- كان يسعى لخلود القيم وخلود الروح وخلاص الانسانيّة عبر تضحيته بنفسه وكلكامش يبحث عن الخلود الجسدي والخلاص الانساني ضمن هذا الاطار الجسدي والدنيوي.
من هذا المنطلق تجد القيم المتحيّزة عند الكاتب تبريراتها التي تتمتع بالمقبوليّة والمعقوليّة نتاج الاسناد الفلسفي الذي اعتمده المؤلف في منهجيته المقارناتية التي ابتنى عليها نصّه المسرحي وشكلت دلالته الكبرى، فالمنهجية المقارناتية تفيد في الكشف عن الفلسفة التاريخية التي تؤكد حتمية التصادم التاريخي عبر الاحتواء الكوني للثنائيات المتضادة كالخير والشر والعدل والظلم.. الخ من الثنائيات القارة تاريخيا والمنبثقة مع انبثاق الوجود والثنائيات كجوهر تاريخي وانطولوجي، هي التي ألهمت الدراما في إبراز الأبطال وأضدادهم خصوصا في الملاحم التاريخيّة.
في هذا السياق فإنّ المؤلف يستفيد من التشابه والتكرار التاريخي في بناء نصه الدرامي (ألواح الطف) والذي أكد من خلاله درايته بفلسفة التاريخية الحافلة بالثنائيات على مستوى الأبطال الأخيار وأضدادهم الاشرار.
اعتمد المؤلف في بناء نصّه، على المسرح الملحمي لـــ (بريخت) والذي أتاح له الإمكانية في إظهار الغرائبيات التي حفل بها النص في سياق المزاوجة والتداخلات الحدثية بين ملحمة جلجامش وبين واقعة الطف، وبين الألواح السومرية وتعاليمها وبين الألواح الاسلامية وتعاليمها بين التراث الملحمي، والارث التاريخي، والمعطيات المعاصرة في استخدام الديكور الذي اسهم في اظهار دلالات النص على نحو باهر دفع بالنص الى فضاء اوسع من الفضاء الكتابي او بمعنى اوضح، فإن التعريف النصّي للديكور الذي وضعه المؤلف في مقدمة الكتاب اتجه الى فضاء صوري سينمائي خصوصا مع استخدام شاشات الكترونية والتي تتكفل بمهمة عرض الوثائق التاريخيّة، فضلا عن انقاذها للنص من الترهّل واعفاء الراوي من مهمة السرد الممل الذي قد يرهق القارئ والمشاهد معا في حال تمثيلها مسرحيا، فتصاعدية الاحداث مع هذه الطريقة المبتكرة في عرض الوثائقيات كانت تسير بانسيابيّة تسهل عملية المسرحة او التنفيذ المسرحي.