جاي جوفيت: متعة التلصُّص تختزل كلَّ شيءٍ تقريباً

ثقافة 2023/07/25
...

 ترجمة: محمد تركي النصار

ضمَّ الإصدار الجديد من (الشعر المعاصر في الترجمة) قصائد مترجمة لواحد من أهم شعراء اللغة الفرنسيّة في العصر الحديث هو جاي جوفيت، وقد قامت الشاعرة مارلين هاكر بترجمة هذه القصائد، مشيرة في مقدمتها إلى أن جوفيت الذي يعد فرلين أحد آبائه الشعريين، فضلا عن إعجابه الشديد بالشاعر اودن هو بلا أدنى شك شاعر الفرنسية الغنائي بامتياز.

 يحتفي جوفيت في قصائده بالجانب الحسِّي واليومي مما يجعله قريباً لمزاج القارئ الانكليزي أكثر من سواه من شعراء الفرنسية المعروفين بميلهم الشديد نحو التجريد.

ويتميّز شعر جوفيت باستخدام المفردات الواضحة، شاحنا إيّاها بدلالات جديدة تزخر بروح الفكاهة والثراء الوجداني والسرديات اليومية، وقد عبر الشاعر ايف بونفوا عن أعجابه بجوفيت واصفا إيّاه بأنّه الشاعر والكاتب المخلص لحياته الشخصية الخاصة في لحظاتها الأكثر بساطة معبرا بشكل خلّاق عن احاسيسنا ورغباتنا الحميمة، واصفا إيّاه بأنه واحد من أبرز شعر اللغة الفرنسية في العصر الحديث. 

تتكون قصائد جوفيت التي نشرت عام 2009 من مقاطع على شكل سوناتات وهي عبارة عن (مرثية إلى صديق)، يخاطب فيها الشاعر بول دي رو. 

يستخدم جوفيت القصيدة المكونة من ثلاثة عشر سطرا على شكل ثلاث رباعيات غير مقفاة والسطر الأخير الذي يكون عادة مؤلفاً من اثني عشر مقطعاً، ومنذ بواكير عقد التسعينيات من القرن الماضي صار هذا الأسلوب خاصية شعريّة مميزة لجوفيت كما تقول المترجمة مارلين هاكر.

ومثل المحار المغمور برمله، هناك دائما شيء ما غير متوقع، وتذكر هاكر في ترجمتها المميزة من اللغة الفرنسية مثال رامبو الذي يقول: (أنت لا تغادر أبدا) طارحا مثالا مدهشا يصلح منطلقا للحديث، فتعليقه هنا يعكس التشخيص التراجيدي المحزن لمحدوديّة البشر، فضلا عن فكرة أن السفر الخيالي هو أكثر حقيقية من أي شكل من أشكال السفر الجسدي.   

تطرح هاكر في مقدمتها تصورا مغايرا للتصور الانكليزي العام عن الشعراء الفرنسيين المعاصرين، مؤكدة النظر للشعر الفرنسي بوصفه تجريديا ويعنى بالمفاهيم أكثر من اهتمامه بالتجربة الإنسانية، وبأنّه شعر صعب جدا، لكن شعر جوفيت يختلف فهو مليء بروح الفكاهة والمرح والاشتياق والعذوبة والحنين والقسوة في بعض الأحيان، وعلى الرغم من مغالاتها في تشبيه شعر جوفيت بالشاعرين الأمريكي جيمس رايت والايرلندي شيموس هيني فإنّ ما تطرحه بهذا الشأن أمر صحيح إلى حد كبير.

 ولد جوفيت عام 1947 ونشأ وترعرع في مناطق بين فرنسا وبلجيكا متنقلا بينهما، والآن يعيش في باريس لكنه دائم السفر إلى المدن الأخرى، مع أن العاصمة تبقى هي (المكان حيث يكون المتحدث في نصوصه جاهزا للمغادرة) كما تقول هاكر في المقدمة.  كتب جوفيت خلال الإقامة في مدينة رامبو (شارلفيل) قصيدة على شكل ضربات خاطفة تعتمد على المشاهدة مع وجود خيط ايروتيكي قوي ينتظمها. الجنس أحد أشكال المغادرة، ويعبر جوفيت عن هذا الالتياع والحنين بشكل واع جدا: آه أيتها الغريبة/ ذلك المخلوق دائم الحركة (رسائل إلى المرأة المجهولة عبر الشارع 2).

تحتفي قصائد جوفيت بهذه المتع المألوفة، ورامبو نفسه يظهر وهو يصيح: (اللعنة على شعر التسكع) وفي وقت مبكر (يظهر وهو يلوي رقبة الفراشة التي تضع عسلا كثيرا على ذيول حشرات الشعر) من قصيدة (وداعا شاتو).. جوفيت المختلف عن سياقات الشعر الفرنسي الصعبة، قريب من الهموم اليومية ويكتب عن مواضيع وثيمات مألوفة، وهذا ما تعتقد هاكر بأنه يجعل منه قريبا من قرّاء الشعر الامريكي والبريطاني. 

قصائده مكتوبة بطريقة قريبة للسوناتا مثل قصيدة (انتظار) المكتوبة على لسان امرأة تخاطب حبيبها، وهذه المقاطع توضح بأن الغياب الأخير ممثلا بالموت، والرغبة هما ما يغذيان الشعر: (حكم هذا الغياب هو ما يسحقني مثل حشرة على لوحة) على الرغم من أن القصيدة النهائية تظهر نوعا من الحنين الرومانتيكي، معبرة بأنه حتى الجنس يخذل الحنين البشري والمرأة خلقت ليتم تصويرها على هيأة جزيرة (حيث تستمر فيها دهشة الكينونة، والقلب لا يزال في مكانه وهو كابتن السفينة) هنا تقف الرؤية الفردوسية على النقيض الحاد لحقيقة العشّاق وهم يعرون بعضهم بعضا وسط تراكمات الزمن. 

لا تخرج ثيمات جوفيت في الحب والزمن والموت عن المعالجات الكلاسيكية وبالرغم من أن قاموسه قريب إلى الكلام اليومي إلا أن الكثير من صوره الشعرية تتجاوز ما هو زمني في إشاراتها إلى الرحلات، الأنهار، الأشجار، الفضاءات، السواحل، الطرق والنجوم. تستوحي قصيدة (الصعود إلى الترام: اختلافات) موضوعها من صورة فوتوغرافية لمدينة نيويورك عام 1900 حيث تظهر في الصورة امرأة تقفز في الترام بينما يراقبها باهتمام واضح أحد المسافرين، وكذلك قاطع التذاكر، وبإيجاز شديد يتم تصوير نظرة المسافر بستة أبيات لإظهار متعة التلصص التي تختزل هنا كل شيء: (اللمعان الخاطف للأسماك في التيار/ وطعم أول الفاكهة/ ونحن نمسحها في السوق/ وكيف أطلق غصن شجرة البندق/ صفيره في الهواء/ بينما يوشك على ضرب طفل في قفاه). 

عندما يتكلم المتحدث بوضوح أثناء هذه اللحظة يشعر بالحيرة وكل مايستطيع الحصول عليه هو الكلمات، وعلى النقيض فإن رؤية قاطع التذاكر للمشهد هي مزيج من الجمال والخطر، ومألوفية الصورة تحفز بعضا من ذكرياته التي تجعل دم الأشياء ينبض بقوة مثل القلب في (ظلال الغرف الميتة).  تشمل اختيارات هاكر الفترة من 1991 متضمنة النصوص الأطول التي نشرت في عام 2001. وتستلهم قصيدة (طيران إيكاروس) أجواءها من لوحة بروغويل ذاتها التي الهمت اودن في قصيدته (متحف الفنون الجميلة)، وتتكون من مقاطع قريبة من شكل السوناتا، ومرة اخرى لا يستغرق جوفيت طويلا في تأمل اللوحة بحد ذاتها وبدلا من ذلك يرصد حركة الناس في مترو باريس وهم يتراكضون باتجاهات متقاطعة حيث/ الوجوه والليالي ذاتها/ و (كل واحد من هؤلاء الناس هو ليل بالنسبة للآخر)/ قصيدة في أعماق المتاهة/ وتظهر جملة رامبو مرة اخرى: هؤلاء المسافرون يرحلون من دون الوصول إلى أي مكان، ومع ذلك فإن هدفهم هو اعتلاء السفينة وعدم العودة، وبعدها يلتفتون إلى الراعي في اللوحة، الذي يحسدونه لأنه يعيش حياة رعوية بسيطة فيها مساحات للأحلام الشاعرية، فيما هم مطالبون بالحصول على الذهب والخبز والمباهج، وقد يكون الراعي رمزا للفنان الذي تكون استجاباته شبيهة باستجابات الحشود على الرغم من أن الشيء الوحيد الذي يعرفه هو أن الموت والمحو النهائي يساعدان على أن يرفعا كل شيء عاليا من الظلام.


عن موقع:

 martyn crucefix