جودت جالي
في العام 2007 وصلت رواية الماليزي تان توان إنج (هديَّة المطر) إلى قائمة البوكر الطويلة، أما روايته الثانية (حديقة ضباب المساء) 2011 فقد وصلت إلى قائمتها القصيرة، وبعد انقطاع عقد من السنوات عاد برواية تُعيد سرد أحداث واقعيَّة جرت في عشرينيات القرن الماضي في بينانج التي كانت وقتها مالايا البريطانيَّة.
الشخصيَّة الرئيسة هي ليسلي هاملين التي ظهرت ابتداءً بوصفها “مجرد امرأة تزوجت زواجًا تعيسًا في المنطقة الاستوائيَّة”. تعيش ليسلي مع زوجها روبيرت في بيت جميل، حيث يعاني من عواقب الإصابة بهجمات الغاز في الحرب العالميَّة الأولى، ويقضي أغلب وقته يحدّث كلبه أكثر مما يحدّث زوجته، وقد استعادت حياتهما اليوميَّة الروتينيَّة نشاطها عندما جاء صديق قديم لروبيرت، وزميله أيام الجامعة، ليقيم معهما وهو “ويلي” (وليم سومرست موم 1874- 1965) “أحد أغنى الأدباء في العالم”، رجل يحبّ الجلوس “في الشرفة الهادئة” على ضوء “من مصباح الكيروسين” ويتحدث إلى أولئك الذين يميلون إلى الإفضاء بهمومهم إلى شخص “سيكون في الصباح قد رحل”. سرعان ما بدأ ويلي في بينانج “بتشمّم فضائح الآخرين وأسرارهم”، وتتكشف القصص، بماضيها وحاضرها.
إنَّ روايَّة إنج هي كتاب أطر داخل أطر، فأبواب القصص تنفتح لتكشف عن أبواب أخرى، ويعمل المؤلف مثل الطيور التي لاحظتها ليسلي في بداية الكتاب “ تكتب دوائر فوق دوائر على صفحة السماء الفارغة”. يصادف أنْ تكون ليسلي صديقة إثيل براودلوك، وهي امرأة متزوجة حوكمت (في الحياة الواقعيَّة) في محاكم كوالا لامبور بتهمة قتل رجل مدعية أنه حاول اغتصابها، وقد ضفر المؤلف قصة محاكمتها مع حديث ليسلي عن خيانة روبيرت وحبّها هي لشخص آخر والتي جرت في بيت الأبواب الملغز.
يعدّ ويلي نفسه مسجلًا ليوميات الضعف البشري، مسجلًا “الجبن والخوف والأنانيَّة والغرور، والنفاق”، ولكنه يؤكد أنه يكتب “بلا أيِّ سخرية متعالية” وأنَّ شخصياته “ليست أبدًا خارج نطاق الإصلاح نهائيًا”، وإنج بالمثل يسرد هذه الحيوات المضطربة بلا رحمة وبتعاطف في آن معًا. بعض أقسام الرواية تُسرد بضمير المتكلم الذي هو ضمير ليسلي، وبعضها بضمير الغائب المغلق الذي يأخذنا إلى عالم ويلي الداخلي. سرعان ما يصبح واضحًا أنَّ ويلي نفسه يقوم بعمليَّة هروب من زواج مصلحة، وقد ترك زوجته خلفه في لندن ويعمل مع سكرتيره جيرالد هاكستون (1892 - 1944). إنَّ جيرالد ضحل وتافه لا يهتم إلا بالمقامرة والدعارة، ولكن ويلي يحبّه. على كل حال إنَّ حقيقة العلاقة غير مكشوفة وفقد ويلي كلَّ أمواله فيما فقد جيرالد اهتمامه بويلي.
كل هذا يحدث على خلفيَّة عالم مظلات الباراسول الخفيفة وقبعات بنما وغلمان البيوت والمراوح التي تهزّ بالحبال. لا أحد يهتم حقًا بإثيل المسكينة لأنها “أضرّت بهيبتنا أمام أهل البلاد” حين ادعت أنها قتلت وليم ستيوارد لأنه حاول اغتصابها لكي لا تقول أنه عشيقها وأنها عاهرة، وقد غاص تان في تفاصيل هذه الجزئيَّة التاريخيَّة التي سبّبت للبريطانيين في مالايا حرجًا كبيرًا. يضع تان قصة الحب والخيانة هذه ضمن سياسات ذلك الزمن والعادات الاجتماعيَّة.
من بين الاقتباسات التاريخيَّة التي جعلت رواية (بيت الأبواب) أكثر إحكامًا هو تناول قصة سون يات سن الثوري الصيني الذي كان يعمل لقلب نظام سلالة كنج، إذ أقام فترة في بينانج لتأمين الدعم وجمع الموارد، وقد اهتمت ليسلي بشخصيته ما دفع روبيرت إلى تصور أنها منجذبة إلى المتمرد، لكنه لم يفطن إلى حقيقة أنها منجذبة إلى آرثر لوه الطبيب الشاب الذي يعمل لقضيَّة سون. يأخذها لوه إلى البيت الذي تركته له جدته. قد لا يقدر القارئ خطورة مثل هذه العلاقات فهي في فترة بعيدة لكنها آنذاك، بالنسبة للمرأة والزوجة في الفترة الكولونياليَّة، إذا أمسكت وهي في هكذا علاقة قد تصبح في طريق لا عودة منه.
الشيء الجميل والمحبب هو أنَّ السرد لا يتضمن تعليقًا على الأحداث من قبل المؤلف، ومهما كان النقد للاستعمار فهو ضمني. إنَّ ويلي وليسلي على كل حال عارفان بأنَّ المرأة لا حول لها ولا قوة في هذا المجتمع، ومع أنَّ ليسلي تحقق بعض الحريَّة فإنَّ هذه الحريَّة تتحقق عبر رواية القصص عن حياتها وحياة الآخرين (بما فيها من أسرار) والتي يبتهج ويلي بسماعها لأنه يمكنه أنْ يقتبسها لقصصه “يغسل الحكايات وصور الحياة من التراب كما يغسل الباحثون عن الذهب ثم يذيبها في قصصه”، والحافز الذي يلح على ليسلي لإخبار شخص ما عن هذه الحكايات والصور هو كالحِكّة التي لا يمكن تجاهلها. هكذا تنفتح أبواب الحكايات ذهابًا وإيابًا ما بين أعوام 1910 و1921، يسردها تان بتفصيل مفعم بالحيويَّة، حتى تدرجات ألوان مناظر المنطقة الاستوائيَّة وهي تتغير، بالإضافة إلى الثقافة والسلوكيات وغيرها مما تمتصه ذاكرة ويلي وتختزنه. تحت الطيبة والرضا يكمن عدم الرضا والتظاهر والزنا والخيانة، ودائمًا، الخوف من الانكشاف، إذ “ليس من شفرةٍ أحدُّ من لسان الإنسان”.
إنَّ (بيت الأبواب) يذكرنا بالأفلام الكولونياليَّة واقتباسات الثمانينيات من كتب ككتاب بول سكوت (الجوهرة في التاج) 1966 وكتاب روث براور جابفالا (حر وتراب) 1975 وكتاب جيمس فوكس (الأذى الأبيض) 1982. لكنه ليس معارضة لأعمال أدبيَّة سابقة (أو محاكيًا لأعمال أدبيَّة سابقة). إنَّ ما يرفع من شأن كتاب إنج هو الجمال الطاغي لكتابته، كتابة مسيطر عليها، أنيقة، دقيقة، بكل تفاصيلها، وكل سطر جرى وضعه في مكانه المناسب. إنَّ الألم والفقدان والخيبة تسيل من كل صفحة، وكذلك الجمال والحنان، وهذه الرواية أيضًا هي احتفاء استذكاري بسومرست موم الذي نال نقدًا لاذعًا ففي العام 1978 تمَّ وصفه في ملحق نيويورك ريفيو أوف بوكس بوصفه “مهاتما” الثقافة المتوسطة، وهو حاليًا يعد عتيق الطراز، ولكن ما يثير الاهتمام أنَّ كتبه لا تنفك يعاد طبعها، ولعل هذه الرواية تنقذه من تقييمه هو لنفسه بوصفه “في الصف الأعلى من الدرجة الثانية”. لا يحتاج تان توان إنج إلى هذا الدفاع فهو يستقر في ذروة الصف الأول.
__
*المقال معد من مجموعة من المقالات
في الملاحق الأدبيَّة الأجنبيَّة