ثنائية الجميلة والوحش

ثقافة 2023/07/26
...

جينا سلطان

    أغوت جميلات الياباني الأنيق ياسوناري كواباتا النائمات الكثير من الأدباء، ومنحتهم عودة مريحة لأحضان حكاية الجميلة والوحش الشعبية، فحملتهم بعيدا على أجنحة التمني وخيالات الشباب الجامح، وسهلت لهم التحلل من عقود الزمن وعهود المواثيق والالتزامات. وبينما تجذرت العقلية الاستحواذية عبر تعاقب السنين وتواتر الخبرات الإنسانية وتكدسها في الذاكرة الجمعية، استقامت صورة الأقوى في الأذهان ورتقت عيوبها بزينة الجمال الغض.
    اعتادت الروائية البلجيكية أميلي نوثومب على بث القلق عند مقاربة الثنائيات الحدية في متاهات الإبداع، ابتداء بغول الجوع بأشكاله المتباينة ودوره في تشييد الملاذ الآمن للنفس الجزعة، ومرورا باستطالات الجريمة والعقاب المعاصرة، وليس آخرا محاكاة كواباتا في إسقاط الجمال النائم بين أحضان القبح المتيقظ لهبة الجمال.
    في روايتها “زئبق”؛ تؤسر الشابة الفاتنة هازيل في جزيرة معزولة خمس سنوات، من قبل عجوز شغف بحبها، فسجنها داخل نفسها بوهم التشوه المتأتي عن حريق متعمد. وفي ظل الغياب الكلي للمرايا تقوم بينهما علاقة عاطفية قوامها التقدير والاحترام المتبادل القائم على حصانة الجمال النائم بين أحضان القبح. لكن ثنائية الحسناء والوحش تخترق من قبل ممرضة شابة جميلة تمنحها نوثومب لقب أثينا لذكائها، بحيث ينخرط الثلاثة معا في تأمل فلسفة الحب، لتدرك هازل في لحظة المواجهة الحاسمة مع المرآة أن الجمال وعدٌ ينبغي الوفاء به.
    تنطوي مرحلة الخداع بمرافعة يلقيها العجوز، قبل تحرير معشوقته هازيل من مصيدة القبح ووهبها ثروة ضخمة تحمي جمالها الملائكي من سوقية الابتذال. وترتكز على مبدأ عدم اشتراك البشر بنعمة الجمال، وبكون الحب ليس إحدى أبرز مزاياهم، وهو ما دفعه لإعادة خلق جنة عدن في جزيرته، لإخفاء حواء الأبدية الخاصة به، ووضعها في مخبأ بعيدا عن آلاف الأشرار الذين كانوا سيعبدونها بدلا منه، وبذلك قاس جدارته. بالمقابل، تعترف هازيل بأن الحب الكبير الذي حظيت به صقل إشراقها الداخلي وأكسب ملامحها رقة وتناسقا كشفا جمالها.
    وتأتي المفارقة على شكل نهاية مفتوحة على خيارين، يجسد الأول الحرية الكاملة لهازيل والمُصانة بالمال، ويعكس الثاني مأزق الحسد الخفي الذي يمرر سنواتها الخمسين الباقية على الجزيرة تحت وصاية الممرضة الحانية، وفي كلا الحالتين يظهر الوحش كأفضل مَنْ يحافظ على جمال الحسناء.
    غياب المرآة في عمر الثامنة عشرة لدى هازيل المحكومة بوهم القبح، يقابله ظهورها فجأة عند فتاة في نفس العمر، تبصر وجهها المنحوت بدمامة استثنائية، يردها المؤلف البرازيلي مواسير سكليار في روايته المرأة التي كتبت التوراة إلى قساوة الجبال التي أحاطت بعروس شابة، أثناء تعثرها بمستنقع الخيانة، فانعكست مشاعر الخذلان والرفض قبحا على وجه طفلتها الوليدة.
    ولأن الذنب يشكل المكون الأساسي في التقاليد التوراتية لا يقتلها الأب الخائن لزوجته الحامل، التي تمنت أن يولد بكره دميما، بل تدفعه مذمة عشيقته ونبذها له إلى القبول بالتهمة الخرساء التي يمثلها وجه طفلته. وهذا المدخل يخدم غرس الشخصية الأساسية في بيئة توراتية قاسية، لا تغفر للمرأة قبحها، وتؤطر دورها بالدمية الجميلة والوعاء الحافظ للنسل. لذلك يتواصل خداع النفس عند الفتاة حتى بلوغها سن الرشد، حين تُظهر المرآة قوة غواية الكذب المقنع بالورع، فتغدو الدمامة المتعلقة بالهوس الجنسي عند مدوني التوراة القدماء انعكاسا للزيف الذي شوه صورة أنبياء اليهود في الأذهان الغافلة.
  ولمناقشة جوهر القبح الإنساني يمارس سكليار لعبة العلاج النفسي بالحيوات السابقة، التي تقود القارئ إلى حكاية امرأة دميمة خارجة من الثنايا الخفية للمدونات التوراتية. فيتكئ على المبدأ التاريخي المعهود في توثيق أواصر القبائل اليهودية وربطها بالولاء للملك عبر المصاهرة وتعدد الزوجات، ليُدخل من خلال الزواج الشكلي من الملك الوسيم والحكيم سليمان الفتاة الدميمة في شركة النساء الملكية؛ الحريم بوصفه مصنعا للتجميل. وبالتالي تنسب البطولة في الرواية إلى فلسفة القبح التي تؤنسن القلوب الوحشية فترق وتسمو فوق الإدانات والضغائن والأحقاد. لذلك تتوق العروس الشابة لارتقاء عرش سليمان كي تنصب دمامتها، فتحظى بالتملق وتشرف وتمجد، حتى يبلغ تعظيمها حد الاعتراف والاحتفاء الذي تصبح معه جمالا.
    لأن الدمامة لا مكان لها في السردية المقدسة باعتبارها رجساً، يمنح سكليار فتاته القبيحة الحظوة المتأتية عن هبة القراءة والكتابة تحت قبة ثالوث الجهل والتجاهل والتجهيل. وبالتالي تعادل الأنثى المثقفة، التي تشارك الذكور لعبة المخاتلة أمام المرايا، فيرجمونها بحجارة القبح. لذلك يُسقط على عاتق بطلته مهمة تحـــــــرير النص التوراتي نقلا عن الشيوخ الكبار وفق أمزجتهم، التي تروم الانتقام لشبقهم باستنزال العقوبات على الجنس البشري.
    تلوذ الكاتبة بما بين السطور، لتجد إنسانيتها في الاحتفاء بحب آدم وحواء، فيتصل عشقها لزوجها بعشق نساء ورجال لا ترد أسماؤهم في كتب القدماء، وتغفل فرديتها مقابل سريان آثار بوحها خلسة في المخطوط. وبالتالي يعدو إحساسها المستتر في مروج الحب كالغزلان، ليصبح بمثابة رد فعل على ميكيافيلية المناورة السياسية التي تضمنتها سردية القدماء، المتعاقبة من البطاركة فالقضاة وأخيرا الملوك، في إيحاء بوجود تواصل في السلطة متجذر منذ غابر الأزمنة بلغ ذروته مع قائدهم سليمان.
    يعتبر سكليار التاريخ رقية، تلطف آثار التهور المتأتي عن جموح الشهوة، التي تثبت أن أكثر الرجال حكمة يغدو أحمق حين يلعب الجنس بعقله. ولكونه طفلاً ولد من علاقة داوود ببثشبع، أصبح شهادة على عشق أثيم، وبالتالي قربانا ـ  نتيجة ذلك ـ مثل الأضاحي على مذبح الهيكل. وهذا ما يفسر حاجة سليمان لإيجاد معنى للمسيرة التاريخية التي يرتبط بها. لذلك يعمد إلى استثمار الشهوة عند زوجته القبيحة عبر التقنية الصوتية الفاحشة في الغرفة المجاورة لمكتبها، فتصوغ حرمانها لبنات تجبل معلمه الأدبي، حتى يستقيم صرحا هرميا معجونا بالاستعباد.
    وعند هذه النقطة ينتقد المؤلف اليهودي الأصل “الغباء الفاجر المتسربل بالطقسية الدينية” عند الملك الشاب، والذي ينعكس في بناء المزيد من المعابد، ومعاشرة المزيد من النساء اللواتي يجعله ضعفه وغروره عبداً لهن، بحسب المرويات التوراتية. وبذلك يفسح المجال أمام الدميمة كي ترتقي العرش وتختبر ممارسة القضاء، من خلال محاكمتها للراعي الذي أشعل النار في الكتب، فبدد مجهودها الطويل وضيع فرصتها في التقرب من زوجها الوسيم. فتعفو عنه لكونه ضحية مثلها للأهواء والنزوات التي تصنع التاريخ. وفي نفس الليلة يطلبها أخيرا لفراشه، ويمتعها، فيكتمل قدرها كأنثى، لكن إدراكها لعمق التضحية، التي قادت إلى المتعة القصوى والمقدر لها أن تكون استثنائية نظراً لقبح وجهها، ينهي حياة العبودية الجنسية داخل الحريم، والمرتكزة على الانتظار، فتتسلق الأسوار، وتهرب.
    وفي هذا النموذج المعكوس لثنائية الجميلة والوحش تصل الشخصية إلى التحقق الذاتي المعادل لذروة الوعي المتوج بالحكمة، فتتجاوز مرحلة الانتظار العبثي لتلقي الاستحسان والقبول من الشريك، وتخرج من الارتهان للثنائيات المتضادة. بالمقابل، تؤطر نوثومب عزوف الكثير من الناس عن الحصول على نعمة الجمال، لأنها تضعهم في مصاف النخبة، التي يقيض لها أن تبصر الدهشة والانبهار في عيون الآخرين، أو تجسد حلم البشرية في الكمال.