كيف نحلّل ونقيّم العمل الفني؟

ثقافة 2023/07/26
...

خضير الزيدي

تختلف رؤيَّة وتقييم أيِّ عملٍ فني من شخصٍ لآخر وفقًا لثقافة معينة ودراسة مسبقة بالأسس التي بُني وتكوَّن وفقها ذلك العمل الفني، ومن المؤكد أنَّ قراءة اللوحة أو النحت وحتى العمل المفاهيمي يحتاج لعمليات تحليل من نوع يقدم شرحًا كافيًا وتقييمًا بعد عرضه، ومن الطبيعي أنْ نجد اختلافًا في الآراء التي تتبع المنجز الفني..

 وهذا الأمر ليس وليد اللحظة التي نشهد فيها تقاطعًا في الرؤى حيال الكثير مما يُنجز من لوحات بل كان الاختلاف قائمًا منذ أنْ علمنا أنَّ (الجورنيكا) احتملت قراءةً واحدةً بعيدةً عن التأويل لأنَّ كلَّ وحداتها الشكليَّة والأسباب الداعية لإنجاز اللوحة كانت معروفة تاريخيًا حتى أنَّ جميع مكوناتها تحمل وجهتها من حيث المضمون، لكنَّ الأمر اختلف كثيرًا مع بول كلي وما أنجزه من تجريدات جعلت قراءة العمل تأخذ منحًى قابلًا للتأويل وتعدد القراءات جراء إنجازه لوحات تجريديَّة لها سياق يبدو غريبًا من حيث التوجه والقراءة، أما إذا عدنا لسنوات قديمة فسنجد الفنَّ حمل وجهًا له وظيفة دينيَّة وسحريَّة في العصور القديمة وكان فنًا جادًا له مشروعه الذي يتطابق مع التصورات الذهنيَّة والعقائديَّة المعينة، وحاول كثيرون أنْ يسوِّغوا أهميته ويكتشفوا طبيعته المزدوجة يومذاك لكن بقيت القراءات تختلف، فتصوّر كل فرد يُعطينا تسويغًا متناقضًا مع الآخر، من هنا نفهم أنَّ العمل الفني مع كل ما يحمله من نسق ثقافي وبنية علامات قابل لتعدد القراءة والسبب عائد لأمرين أولهما يتعلق بثقافة الفرد الذي يؤول ذلك العمل الفني ومدى اكتسابه للخبرة المتعلقة بمستويات التأثير والإثارة، والثاني يتعلق بالفنان وخاصيته واستغراقه بالحمولات الدلاليَّة لعمله، وأجد أنَّ مبررات كثيرة ستقف حائلًا عند الاتفاق على استقبال أيِّ لوحة نقف أمامها لأنها تحمل صياغة تشتبك فيها حقول كثيرة مثل السيميائيَّة والدلاليَّة والترابط البنائي لأهم قواعدها وأسسها المشهديَّة وكل هذا يجعلها ذات مستويات تأويليَّة وتأمليَّة تتباين من رؤية قارئ إلى آخر حتى مع وجود فجوات في العمل أو الترابط السليم لأهم وحداته البصريَّة، ليس غريبًا أنْ يكون إنتاج لوحة معينة أو منجز فني آخر يحمل سمات الاغتراب طالما يطاله الاجتهاد، لكنَّ الغريب هنا أنَّ ذائقتنا ستشتبك عليها مرجعيات ذلك المنجز وسنقف منذهلين أمام ضرورة إعادة قراءتها، الأمر متعلق بأنَّ الغالب منا وحتى النقاد لا يمتلكون القدرة على البحث الموسوعي أو الثقافي الذي يؤهله لتأويل وقراءة العمل البصري، هناك نوع من كسل غير مسبوق نلمسه في كل ما يتم البحث عنه أمام اللوحة ومدى تفسير بنياتها لأنَّ الفنَّ اختلف ورؤيته تغيرت وتقنيات العمل ما عادت تلك التي قرأناها أو اكتشفناها، أمامنا صار كل فنان يجدد ويبحث عن سبل أخرى تعيد له الحق أنْ يكون ذا أسلوب مغاير وتنقلت قابليتنا في الذوق والذائقة وتشتت انتباهنا أمام خطورة أمر بصري لهذا يتساءل بعضنا هل ما رأيناه يعد فنا؟ أو هي (شخابيط وأفكار لا تجدي نفعًا). طبعًا ما رأيناه حسب المفاهيم الحديثة هو فن له عناصره ومعياره ومصادره المعرفيَّة لكنَّ الخلل هنا في التفسير والقراءة والحساسيَّة التي نمتلكها حيال خطاب الفن والإثارة التي يبديها لنا فمن المؤكد أنَّ لوحة (الموناليزا) لم تعد مؤثرةً فينا مثلما حدث إبان إنتاجها أو السنوات التي لحقتها، صار التماهي معها متغيرًا سواء في طريقة القراءة أو الذائقة، والأمر منطبق على خيول فائق حسن وما أوجدته من تأثيرات بصريَّة جراء التكوين والتلوين، العمل الفني الآن صياغة فكريَّة وليس حسيَّة صياغة تكون فيها المراوغة البصريَّة قابلة للتفكير ومبتعدة عن المألوف هذا هو الاختلاف الجوهري في الفنون اليوم وما توجده من تبعات، وقادت هذه الرؤية الغريبة لتشويش متعمد في قراءة وتحليل وتقييم أي عمل نراه يضاف له ما يعكسه (الأمر المحايد) في إثبات قيمة العمل جماليًا أو الاحتكام أخلاقيًا إلى إنتاجه كوننا لا نعرف مرجعيات تلك الفكرة هل هي وليدة عقل الفنان أو وقعت تحت تأثيرات بصريَّة لها منظومة معينة لكننا نجهلها مسبقا. لنقل بصريح العبارة كل عمل فني يخرج من مصنع الفنان هو فكرة قابلة لقراءات متعددة المستويات أحيانًا تكون منصفة وأخرى متلونة ومرات مغلقة الفهم ولا تُبدي أيَّ تفسير لماهيتها أو هناك آراء متباينة حيال أبعادها جماليًا ودلاليًا ما يهمنا كيف نصل إلى فهم العمل وكشف وحداته البصريَّة ونحن لا نمتلك أيَّ شفرات لنلم بمفاتيح الدخول إليه. منذ سنوات وأنا أطلع على عشرات المقالات التي تحمل (مجاملات) وقراءات انطباعيَّة ثم سرعان ما تكتشف وباستقصاء وتفاصيل معينة أنَّ الأعمال لا تأخذ نصيبها من التأثير الثقافي والنفسي والاجتماعي في مجمل خطاب الفنِّ المعاصر فهل كانت القراءة أحاديَّة غير منصفة للعمل كونها بنيت على أسس المجاملات والدوافع الشخصيَّة أو علينا القبول بفكرة أنَّ ما موجود أمامنا (هذه البضاعة) حتى وإنْ كانت فاسدة وغير مثمرة لنتفق على مبدأ أساسي في الذائقة الفنيَّة لدينا جميعًا بأننا رأينا أعمالًا بقيت في الذاكرة وأخرى كانت عصيَّة الفهم فضلًا عن أعمال ذات طابع ثانوي تعبوي ساذج ولكن ومن الإنصاف القول إنَّ هيمنة بعض الأعمال على ذائقتنا جعلتنا نعد الفنان متألق الإبداع ومتميزًا بأعمال أخرى وهذا خطأ فادح في حسابات الذائقة وحساسيَّة التلقي البصري فليس كل ما ينجزه فنان معين هو مؤثر وجميل ومؤسس على خطاب مختلف، أدرك شخصيًا أنَّ مثل هذا القول مزعج لبعض الفنانين أو لرواد الفن الستيني مثلاً، إذ يرون أنفسهم فاتحين لفنون مختلفة في التصور والاعتقاد الجمالي والبنائي لنطرح مثلًا هذا التساؤل هل تأثيرات خيول فائق حسن بقيت بذات المستوى من الاتصال المعرفي حينما نشير إلى تجديد الخطاب الفني؟ وهل ما أدركناه مع المتغيرات البنائيَّة لشاكر حسن ال سعيد وكل منجزه كفيل بأنْ يضعنا عند التأثير الدائم بكل أعماله فكيف سيكون اعتقادنا بمرجعياته ورؤاه وهو القائل إنَّ (الفن لعبة)؟ وأين نضع عبارة شاكر أمام مقولة ماركيوز الشهيرة (إنك حين تلغي الحدود الفاصلة بين الفن والواقع، فإنك تبشر بموت الفن). اختلفت القراءات في العمل واختلف الفن وصار ما يلزمنا غير موجود ولن يكون قابلًا للتواجد فما عاد الرسم يظهر الرقة والحساسيَّة صارت المفارقة ممكنة وهي في مهب الاستدعاءات بأنَّ كل شيء يتغير وقابل للتأويل.