عباس ثائر
ماذا لو ليس لنا أسماء ثلاثية ولآدم الأول وحده اسم ثلاثيّ؟ بعبارة أدق ماذا لو كنا أنفسنا عراة من أسماء آبائنا؟ ما الملمح الذي يكون عليه المرء عاريا من اسم ابيه وجده؟ في الأراضي العربية حتى لحظة كتابة هذه السطور، ما يزال القاطنون فيها يفخرون بقبائلهم ويعاب من لا يعرف أصله، فكيف بمن ليس له اسم ثلاثيّ أصلا؟ .
يثير أكرم الأمير -الشاعر الذي ابتلعه السرطان، في العاشر من يناير سنة 2019، في مدينته البصرة، المولود فيها عام 1992 - السؤالَ في نفس المتلقي، من خلال مجموعته الثانية (الاسمُ الثلاثيُّ لآدم) التي حضرت بعد غيابه، -الصادرة عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق، عام 2023، بـ 84 صفحة من النوع الوسط-، إذ إن السؤال ينبثق من التاريخ والأثر، فالحقيقة أن التاريخَ لمْ يعرف لآدم اسمًا ثلاثيًا، كما لمْ يعرف لحواء أيضًا، لكن الأمير تحدث عنه بإشارة خاطفة، من دون أن يورد الاسمَ كاملًا، يبدو أنه وجد لآدم عبر خياله الشاسع اسماً ثلاثيًا، إلّا أنه لمْ يترجمْه شعرًا مباشرًا، بل ترجمه صمتًا هادئًا، أظّنُه أراد أن يقولَ: إن استنطاق الصامتات هو حرفة الشعراء، وتسمية المبهمات هو شغل القصيدة وانشغالها، كأن الشاعر قال بصوت التلميح البعيد والعميق: إن الاسمَ الثلاثيّ لآدم هو «آدم أكرم الأمير»، والتبرير لهذا القول، والتأصيل لهذا النسب لا يأتي إلّا عبر الخيال؛ الخيال الذي جعل الإنسانَ السابق ابنًا لآدم، ما الضير إذا ما جعله الآن ولدًا للإنسان المعاصر واللاحق؛ مثلما جعله أبًا في السابق؛ مادام الأمر حسيًا، مرويًا لا ملموسًا مشهودًا؟ ينحاز العنوانُ عند صديقنا البصري للاقتصاد في التصريح والاخبار، لحساب الفيض في التلميح والتأشير، من دون أن يلتفت لافتضاح المدركات والغايات، ولا يمكن للقارئ أن يصلَ الاسمَ الثلاثيّ لآدم إلّا عبر «تأويل التأويل»، وهذا ما يقود المخيلة الى هجرة الظاهر؛ واللجوء الى الباطن الشعري. الخيال وحده هنا من يستطيع أن يُؤول العنوان الواضح (الملغّز المباشر)، المقتصد في صراحته، المُغدق في عمقه، ويُشرِّحه ليدركَ كيف يسير الفكرُ في شرايينه الشعرية. استفضت في الحديث عن عنوان المجموعة كونه جاء كسفرة مجانية في التفكير والتلميح والاحتمال وهنا يُكتشف الكنز الإبداعي، إذ إنه فتح باب المغارة المُخيفة، وأدخلنا معه من دون أن نتكئ على مراجع أو مصادر غير الخيال. لمْ يكن هذا الاسم بعيدًا عن الذات إنما هو انطلق من الذات الى الخارج ذي الاحتمالات العديدة، من المحليَّة الى الأمميَّة، فالعنوان ثري الأسئلة يُشرِك الأقوام معًا، لسبب بسيط، أن آدم، المادة الأمميَّة أو الكونيَّة ما يزال عاملًا مشتركًا بين الناس والناس. أتوقف قليلًا عن الحديث عن (جملة آدم واسمه الثلاثي) بصفته عنوانًا للكتاب، والتي استساغها الأمير مرة أُخرى لتصبح عتبةً لإحدى نصوصه، ولكن كيف تُفهم هذه العبارة لو قرأناها كجملة تتقصد الإدهاش والومض؟، تبدو هذه الجملة اعتيادية للوهلة الأولى؛ لأننا قد قرأناها ثلاث مرات في المجموعة الشعرية، المرة الأولى عندما اُختيرت كعنوان للكتاب، والثانية حين أصبحت عنوانًا أو عتبةً لإحدى القصائد، والمرة الثالثة حين صارت جملة شعريَّة داخل النص، في المحاولة الثالثة لاستخدامها قد عبر الشاعر عن عجز الكلمة بالإيفاء لصاحبها بما ينبغي قوله، أي عجز الكلمة عن تحقيق ما يريد المرء قوله، إذ لا يمكن للكلام -وإن كان شعرًا- قول كلّ شيء، وهذا إن دلَّ على شيء فإنَّه يدل على ترجيح كفة الصمت على كفة القول، إذ سبقت جملته هذه: (وكأني أحاول كتابة الاسم الثلاثي لآدم) جمل كهذه: (ذات مرة كتبت أحبك، في محاولة لولادة نصٍ جديد، ولكنني لم أجد أي كلمة بعدها، هكذا شعرتُ بأن النص لن يكتمل..) هنا رجح أكرم الأمير الصمت على القول وقال على طريقته - لو حاولنا تأويل المؤول- أن النصوص لن تكتمل، والكلام لا يفي المشاعر البشرية حقها حين يُصوّتها، وايجاد تلك الكلمة من المحال، أبصمُ وأجزم على قولي بـ (لم) الداخلة على الفعل المضارع (أجد)، أنني (لم أجد أي كلمةٍ..) وهكذا أقول: بأن النص لن يكتمل. يبدو الكلام غريبًا؛ لأن صاحبنا الأمير قد سافر الى مكان أخير، خلف الأسوار -على حد وصف السياب- من دون أن يجد كلمة تفي حق القول، واكتفى بالصمت، الصمتُ المُعبر الأوحد عن الاحساس العصي على الكلام، وترك النص من دون اكتمال، ترى من سيكمل
النص بعده؟!