ميثم الخزرجي
ما المعنى الحقيقي الذي خُلق من أجله الانسان؟، هل ثمة حاجة ماسة صيرته إلى هذا المآل ليكون خاضعاً لقوانين الطبيعة أو سنن موضوعة اقترحته وفقاً لمنظومة جدليَّة وما يترتب عليها من مخاضات ديالكتيكية أم أن الفطرة هي التي دعته بأن يكون على السطح ويزاول نفسه بصورة عبثية غير مدروسة، وما هي السبل واللوائح التي تستقرئ وجوده وجدواه في هذا العالم الصاخب؟، لعلي أجد أن السؤال الأكثر عمقاً وإيفاء بالغرض هو الدافع الذي جعله يتأمل هكذا أسئلة تقرر معناه وتستكشف قدره، هل أن تداعيات الواقع بجميع حيثياته وتقلباته السياسية والمجتمعية وأزماته الأيدولوجية برهنت لهذه السعي وراء استحصاله دلائل معرفية وحقائق علمية، أم أن شعوره باليأس والتشرد مكنه للانكفاء نحو قضيته الكبرى ليجتهد في معاودة التفحص والتدقيق عن هذه المعادلة، هل ثمة مرض فكري حيال هذا الاستفسار أم أنها رؤية عدميَّة تصل بصاحبه إلى الكد والشقاء الذهني والانحسار عن التقدم والانكماش بحسب نظرته للمستقبل، على الرغم من كونها ناجمة عن منهجية مستقلة بذاتها لها مضامينها الكاشفة في الطرح والمناقشة، هل ما زال الإنسان الحالي المنفتح على قدرات لغة الآلة ومجرياتها العظيمة التي تختصر المدى بنقرة واحدة والمتغطرس بتقنيات الذكاء الاصطناعي يتساءل بصدق وهمة عن دواعي هذا الوجود؟.
طرح نيتشه رؤيته في كتابة (العلم المرح) مفنداً من خلاله آراء المسيح، وطالب ذلك علناً من خلال عبارته الشهيرة «لقد مات الإله» وقد أزال دوره في تسيير حياة المجتمع بعد أن كانت المسيحيّة طريقة تفكير تسود الذهن الجمعي الأوربي وتدير شأنه غير أنّه أوكل مهمة إدارة حياة الإنسان للإنسان نفسه مجترحاً له سمة الخارق أو السوبر مان الذي باستطاعته أن يعنى بنفسه من دون اتباعيَّة أو وصايا من أحد.
للوهلة الأولى أن حالة القلق والشعور باليأس صفتان متلازمتان في النزوع نحو إثارة قضايا إشكالية، وهنا يرى نيتشه في أن تصعيد الأسئلة المعنية بالذات وما تضمره من قراءات جادة جاء مناوئا لدور الرقيب الغيبي والذي بدوره حاول أن ينتزع اشعاعه الكلي ليهبه إلى الإنسان كيلا تعم الفوضى مانحاً قدرته إليه ولا يشاركه أحد غيره، وظل يتساءل من خلال بطله المجنون الذي طالب الناس عن مكان الإله، وهذا سؤال استقرائي هدفه تحشيد الرؤى وتحفيز العقل ونفض الغبار عن السائد والحتمي، وهنا ننظر إلى ما فعله سقراط الذي راح يتجول في الأسواق ويحاور الناس عن الفضيلة والعدالة وعن السبل لتحقيقها والموانع والمصدات التي تحول من دون ذلك. كشف نيتشه على لسان بطله المجنون بأنَّ الله مات بينكم وأنتم من قتله، مشيراً إلى من حوله، بطله الذي صار يبحث عن الله في كل مكان، يتساءل عن طبيعة العدم الذي أحاط الإنسان وعن الغواية التي لحقت به، هل هو شرود أم امّحاء روحي يتسلل منه من دون أن يعي مضمونه؟، فراغ ضارب وتيه محكم وهنا تكمن تبعات إزاحة المسيحيّة من موقع الصدارة وعدم الاحتكام إليها في مقدراتهم، لعلها إشارة جلية إلى المصير الذي يترتب على هذا القرار وإضاءة دور الإنسان الذي ينزع نحو استمالة الراهن وتقويض محتواه.
لعل المدوّنة المعرفيّة لنيتشه جاهدت في إنهاء الدور الغيبي وإعطاء قيمة عليا للإنسان تنكيلاً بالحيرة والعدم اللامتناهي الذي عاشه، وهو اعتبار وجودي محض للدور المناط إليه وإبطال التقليد الذي ساقه الكهنوت، وهنا صارت النظرة واضحة بحسب دعوة نيتشه في تبديد المطلق والتسليم له غير أنّه رفض أن يعيش الإنسان من دون ضوابط أو نواميس تصون محتواه وهذا تصريح واضح بالتهكم على العدمية والتسيّب وحالة الانفلات الأخلاقي ويرجع السبب إلى مستوى الوعي الذي يفكر به الفيلسوف فضلاً عن البعد المعرفي أزاء تسميته الإنسان الخارق والذي يتجاوز القيم المسيحيّة وأن يصنع قيماً ليمارسها كسلوك حياتي بل باستطاعته أن يروّج لماهيتها ومن ثم هو متيقن من أنّها جاءت من صنيعته متأتية من منظومة غير خاضعة أو تابعة لينتصر على الفوضى والعبثيّة هاماً بوجوده الفعلي أمام اجتراح مفاهيم يروّجها علنا.
واقعاً أن نيتشه عاش في صراع غريب مع ذاته أولاً ومع الواقع ثانياً وفقاً للسياق المعمول به وما أراده في تفنيد دور الإله مانحاً طاقة كامنة وحيوية منقطعة النظير للإنسان ببلوغه هذه الصفة هي إظهار كينونته وجوهره مثمناً رفعة تواجده على سطح هذه المعمورة، لكني أتساءل وفقاً للطرح التي تبناه، هل أن نيتشه توسّم في سره إبراز دور الإنسان فعلاً مع السمات والمتبنيات التي يحملها أم أنّه أسهم في خلق فوضى من دون أن يعلم، فإذا كان لكل إنسان طباع تقوده الى ما يريد محاولاً أن يفرضها على المجتمع، كيف سيكون العالم يا ترى؟، وما هي وجهته؟، وما هو الدور الذي يلعبه الإنسان نفسه حيال قوة الآخر في حال لو آمن بأن القوة بجميع اجتراحاتها هي التي تسيّر الكون، هل سينجو من معطياتها وأحكامها القسريَّة؟، وهل يعتبر القانون الذي يدير زمام الدولة وينظم مسارها الحياتي من ضمن المطلق الذي حرّض
على إبادته.