طالب عبد العزيز
التعريف البسيط لقصيدة النثر أنها «قصيدة تكتبُ نثراً» فهي إذن تقع في صميم الشعر، لأنها قصيدة، بحسب التعريف. وفي كتابه (قصيدة النثر: مختارات عالميَّة) يوضح مايكل بينديكت 1935 بأن قصيدة النثر «تستعمل كل آليّة شعريَّة قد يجدها المرء، باستثناء السطر المقطوع». لسنا في وارد الاعتراف والنفي بمشروعيّة قصيدة النثر، فقد فض أمرُها، لكننا، وبعد آلاف السنين نقرُّ بتشعب وتعدد مذاهب الشعر، بعيداً عن قبولنا ورفضنا لأيٍّ منها، فقد تباينت مدارسه الفنيّة، وعاب غيرُ واحد المدرسة هذه على حساب تلك، واختلفوا في الأشكال والمواضيع، وبات لكل رأيه ومسوغاته، وهذا ما لا يتخلف عليه أحد، فهي في الأخير نتيجة تخضع لأهواء الشاعر والقارئ، ثم لطبيعة القبول والرفض الإنسانيين، لكن الشعرَ في أجلى صوره، هو ما ينبعُ من الوجدان، ويستعمل اللغة، ويبحث أو يتجدد في الأساليب والأشكال، ويتصل بالحياة. «فشعر لا حياة فيه هو هذرٌ وتعالمٌ» عند غي غوفيت.
خارج قضية الشكل، وهي محوريةٌ في الشعر اليوم، يرى أحدُ نقاد الشعر الفرنسي بوجود نوعين من الشعر الحديث، الاول هو الذِّهني، الذي ظهر بعد ملارميه، أيْ الغنائي، أو شعر مدرسة فرلين الذي يغنّي العالم، والثاني هو شعر الأساتذة، الذي يتكاثر اليوم بشكل متزايد» وعبارة الاساتذة تهكميَّة واضحة. إذا ضيّقنا الفجوة بين الشكلين، والى شعرنا العربي فيمكننا اقتراح ثلاثة أنواع: هي ما يكتب ويَعتمدُ موضوعاً محدداً، وبلغةٍ بليغةٍ واضحة، أولاً، وما يكتب ولا يعتمد موضوعاً محدداً، إنما بلغة معوّمة، دونما ضابط لاشتراطات البلاغة فيها ثانياً، وهناك ثالث، وهو الجامع بين النوعين، فموضوع محدد وواضح، ولغة مأنوسة، خاضعة لاشتراطات البلاغة، دونما تهويم ولا هذيان، ومن استطاع الامساك بالثالث فقد أصاب الشعر، وجاءنا بالحَسِن منه.
تندرج قصائد مثل (جيفة) بودلير، و(غراب) إدجار الان بو، و(عندليب) كيتس، و(قنفذ) سعدي يوسف، و(سياج) سامي مهدي، و(لاعب سيرك) عبد المعطي حجازي وعشرات القصائد الاخرى ضمن النوع الاول، وهذه قصائد معلومة، لا نحتاج الى تمثيلها هنا. لكن، يندرج الكثير من شعرنا العربي المنشور اليوم تحت يافطة النوع الثاني، فاللغة عائمة، والموضوع مختف، والهذيان عام، وهناك شطط، وفراغات لغويّة ومعرفيّة، وبلاغات زائدة، لا يمكن العقد بين قرائنها.. يصعب التمثيل عليها، ففي الأمر إحراجٌ واضحٌ. أما النوع الثالث، وهو الصعب، إلا أنه الممكن، فنكتفي بذكر ما يكتبه أدونيس وأنسي الحاج وسركون بولص أمثلةً. يقول ادونيس: «أرى الشمس كيف تحوّلُ الفراق الى لقاء» أو «أرى الى المطر يسقي التراب ويشرب الغيم» أو: «هوذا أتشرّد حالماً، كأنني أضع نجمةً في صحن الليل» ويقول سركون بولص: «لغة الفجر مليئة مثل صمتك بالوعود/ تتمنع مثلك عندما أريدها/ هذه اللحظات التي تتدلى في فضائها..» أو «تعرف أنّني أقضي الليل وراء سور وفي يدي مفتاح الى وليمة» او ما يقوله أنسي الحاج: «كانت الشمس جالسة بين النساء/ سيكون للشمس قمرٌ على يدي، وسأعطيها يدَ الليل» أو: لكلِّ ريح تنام في شعْرك مركبٌ يرسو في قلبي».
في العام 1978 كتبتُ قصيدة بعنوان (الخروج الى الغابات) نشرتها مجلة (الثقافة) لصلاح خالص، كانت على الشكل التقليدي لقصيدة التفعيلة، وموزونة على المتدارك، أذكر أنّني كنتُ قد ضقت ذرعاً فيها شكلا ووزنا، وكان بي ميل واضح الى التجديد. وفي العام 1986 كتبتُ- وبدفتر مدرسي- قصيدة (تاريخ الأسى) كنتُ قد ملأتُ سطرَ الورقة بالتمام- أحتفظ به الى اليوم- هكذا، كما لو أنني أكتب مادة في النثر المحض، أو أروي حكاية. حين أنظر في الزمن، يمكنني الكشف عن محاولات التخلص من الشكل الأول والعبور الى الثاني، خلال السنوات التسع التي تفصل بين التاريخين. وبين التجربتين تقع تنقلات لا حصر لها، كان رامبو يقول ينبغي أن نكون حديثين بشكل مطلق، ونقطع مع ماضي الشعر والنثر على حد سواء. أما ريلكه فكان ينصح بأن يكون الشاعر قدر عاش كثيراً ورأى الكثير قبل أن يكتب كلمته الأولى. أليس رامبو هو من دعا الى خلخلة الحواس، والى خوض التجارب الحياتيّة التقليديّة منها والمجنونة، قبل التفكير بكتابة قصيدة حقيقيّة.