محمد مزيد
خرجت المرأة “شمس الضحى” ذات الأربعين عاماً، من بيتها، بملابس فاضحة، رافعة ذراعيها الى السماء، وشعرها الأسود ينسكب الى خاصرتها، صارخة، في تلك الظهيرة التموزية، “يا ويلي أبو نشوان مات.. ألحقوني”.
تجمعت النساء حولها بظرف دقيقة، جلبت إحداهن عباءة سوداء كالحة من بيتها، لتستر جسدها الأبيض المفضوح، دخل الرجال الى باحة بيتها، فوجدوا أبا نشوان مسجى، تبادلوا النظرات، ولما سألوا زوجته، وهي تنحب وتبكي بحرقة، في زاوية تحت السلّم، عن سبب وفاته، قالت لهم “كان يسعل بشدة ثم توقف قلبه”.
لم يحزن الكثير من الناس لوفاته، كانوا يمقتونه، بسبب القصص والشائعات التي يلفقها عنهم، سواء في هذا الزمن، أو في زمن النظام المباد.
تصدر سرداق العزاء، أخوه رعد، الذي كان مخاصماً له، طوال عشرين عاما، تصدر مجلسه لتلقي المواساة من عدد محدود من الناس، وفي اليوم الثالث، جاء رجل غريب الشكل أبيض البشرة، يرتدي بدلة سوداء وقميصا أبيض وربطة عنق حمراء، دخل الى المجلس، صافح رعد ثم جلس بجانبه، ولم يصافح أحداً، كما جرت العادة، بمصافحة كل الرجال المعزين، وعرف الرجل نفسه بأنه يدعى “كالفنيو” من ايطاليا وانه صديق كل “شيطان انسي في الارض”، قال ذلك بلغة عربيَّة ركيكة، ولم يسأله صاحب العزاء عن الكيفيّة التي تعرف بها على أخيه، فهو يعلم أن أخاه على علاقة واسعة بالعديد من الرجال المشهورين في العالم، فضلا عن علاقته برجال السلطة في ذلك الزمان أو هذا الوقت، لكن أحد الشبان ممن كان يجلس بالقرب من كالفينو، سأله عن سبب قوله “إنه صديق الشيطان” ولما لم يرد عليه الكاتب الايطالي، أوضح له الشاب “بأن الشيطان كائن لا وجود حسيَّا له، إنه موجود في الكتب المقدسة والروايات الفقهيَّة فقط”. لم يلتفت كالفينو إلى محدثه الشاب، وقد عرّف نفسه، بأنّه أستاذ جامعي في احدى جامعات بوركينا فاسو، وبعد سقوط النظام، عاد الى أهله بعد غياب ثلاثين سنة، بزيارة خاطفة، وعندما أخبره بأنه قرأ كل كتبه، التفت اليه كالفينو، ولم يبتسم، لانه وجد في ملامح الشاب عجرفة وكبرياء، لا تليق به، فالشاب ابن بلد غارق في التخلّف، ولا ينبغي لمتخلف أن يكون متعجرفا متكبّرا، فقال كالفينو للشاب “تمتد علاقتي بأبي نشوان الى ما قبل سقوط النظام السابق، أعلم أنه يروي حكايات وقصصا عن أحلام الناس، ويظن بهم سوء الظنون، فهو موظف سابق لدى وزارة الصحة، لكن دوائر المخابرات المحلية جنّدته لينقل لهم أحلام الناس وتخيلاتهم، أعرف أنه يعمل مسؤولا في أحد مذاخر الأدوية، وكان كل يوم يسرق الكثير من الدواء، بعد انتهاء الدوام، ليبيعه في السوق السوداء، خصوصا حبوب منع الحمل وحبوب الطاقة الجنسية “الفياغرا”.
فاجأ الشاب كالفينو بالقول “أنت أيضا كنت تؤلف حكايات تسيء فيها الظن بالحياة والناس، وسرقت من كتاب “ألف ليلة وليلة” الكثير من السرديات”.
التفت رعد أخ المتوفي الى الشاب، ونصحه “الا ينبغي مخاطبة الناس هكذا، ما دام هو صديق المرحوم”، ثم سأل رعد الضيف الايطالي “وماذا تعرف عن أخي غير ذلك؟” فقال كالفينو “أعرف أنه يتخيل كثيرا، أنا أصادق كل إنسان يمتلك مخيلة جامحة مثلي، لكن أخاك كانت له خيالات عجيبة، يحولها الى وشاية، وينقل أحلام الناس الى المخابرات القاسية، لتعتقلهم ومن ثمَّ تعدمهم على “مجرد أحلام”، وهذا أمر غير عادل، فالناس أبرياء في ذلك الزمن، يخافون حتى من ظلالهم، فهو مثلا، كان يبيع حبوب الطاقة الى رجال فوق الستين، ليخبر الناس فيما بعد، إنّهم مصابون بالعجز الجنسي، من دون أدلة وبراهين، ويمنح للنساء حبوب منع الحمل، ليقول لهم إن هذه المرأة أو تلك زانية، من دون مراعاة للسر الذي ينبغي الاحتفاظ به لنفسه “عندئذ، وجد رعد، أن الضيف تمادى كثيرا في فضح أسرار أخيه، وقال له “إنك إنسان سلبي، لا يعرف قدسية الموتى”.. كان الكثير من المعزين، يصغون بانتباه شديد الى أحاديث كالفينو، ووجدوا أنه يقول الحقيقة، وأمسى من الواجب ترك سرداق العزاء، بعد الفضائح المدوّية التي انكشفت في سيرة حياة الميت ابي
نشوان.
غادروا جميعا وبقي رعد والشاب الذي يدرّس علم السرد في احدى جامعات بركينو فاسو، يتبادلان النظرات، لاحظ الشاب أن كالفينو غاب في وسط جمهرة المعزين المغادرين.