ميساء الهلالي
أنا التي اخترت الوحدة بديلا.. وآثرت أن أبقى امرأة بلا سند.. فلطالما آمنت أن سندي الحقيقي هي نفسي.. لأنَّ كل الجدران التي نتكئ عليها ستنهار ولا يبقى سوى أنفسنا هي التي تتحمّل هفواتنا. انفعالاتنا.. جنوننا.
مذ كنت في العشرين وطيف الزواج يطاردني مع كل خاطب يدق بابي... إلا أن الحرب وسنوات القحط والأحلام المرتجفة تحت ركام ضحايا الحرب والمجون السياسي كانت أسبابا كافية لأقرر وبملء إرادتي الإضراب عن الزواج ليس لسبب سوى التخطيط للهرب بعيدا عن بلد صار يلفظ أبناءه ويتغذى على دمائهم.. ولو كان الزواج خياري فمن المؤكد أنه سيدخل ضمن خطتي لا أكثر.
فرغم الأحلام التي راودت شعبنا بمستقبل جميل قبل اكثر من عشرين عاما مضت كنت الوحيدة ربما التي شاهدت المستقبل من نافذة مختلفة رآها الآخرون مليئة بالتشاؤم ورأيتها واقعية فلا يمكن تحويل بلد بين ليلة وضحاها إلى عالم استثنائي لأنَّ الحروب والجوع خلّفت الكثير من اللصوص والبلاد أشبه ببنت بكر مات أبوها وورثت وحدها جميع أمواله فتهافت الطامعون فيها من كل حدب وصوب للظفر بما تملكه وليس بها شخصيا ونجحوا على مدار السنوات العشرين من تحقيق مختلف المكاسب التي أمنت حياتهم حتى إشعار آخر.. وكمواطنة من الدرجة الثانية لم أكن قادرة على نيل المكاسب سوى وظيفة مؤقتة براتب لا يسد الرمق... طحنت سنّي عمري بحثا عن ثغرة للهرب حتى اهتديت لها بفكرة راقتني وهي الزواج المؤقت من أحدهم ليساعدني على الخروج من دائرة الأسرة والمجتمع المزيف الذي يدحض نظرية السقوط لأي امرأة تفكر في الهجرة بمفردها إلا ان هذا الخيار لم يجد ترحيبا هو الآخر من أسرتي سوى أبي الذي كان الوحيد القادر على فهم ما أفكر فيه ولكنه غادرني باكرا بعد أن صب جل خبراته الحياتية في عقلي وترك بضع كلمات ألقاها على مسامعي يوما بقيت تطن كطنين النحل فهي مزعجة بواقعيتها ولكن لها طعم الشهد في النهاية فقد قال “ليس كل السفر حياة.. وليست الهجرة دوما هي المنقذ فقد تتمكنين من صنع أحلامك وانت تعيشين بيننا كما فعلن اخواتك.. لا تحاولي الهرب لمجرد فكرة هروب الجميع وسريان عدواها بين الناس فالصور المصطنعة للمهاجرين ليست حقيقية دائما وإلا لما كان الحنين للوطن عنوانا لرسائل أغلبهم ولما اختار الكثير منهم العودة إلى ارض الوطن رغم كل جراحه.. فالحياة ليست مجرد شوارع نظيفة وحريات مباحة.. الحياة فيها أنت.. وأنت هناك ستكونين مواطنة من الدرجة العاشرة فكلبهم اهم من إنسانيتك.
كنت عنيدة ومصرة على تحطيم ما تبقى من فرص الحياة في بلدي ووعدته بأنني سأجرب ولا ضير من التجربة فإن فشلت سأعود ..
ابتسم بحسرة أب غير قادر على إقناع ابنته المفضلة بفكرة البقاء “ستعودين منكسرة وستبقين متأرجحة بين بهرج الحياة المنظمة هناك وهويتك الحقيقية في بلدك حيث تنتمين وتلك هي الطامة الكبرى إذ إن المغترب يبقى عالقا بين هذا وذاك ولن يرتاح لما تبقى من حياته لا في بلاد الغربة ولا في بلده.. ومن الصعب الجمع بين ميزات الاثنين معا”.
كانت تلك نصيحة أبي الأخيرة قبل وفاته التي لم أتقبل فكرتها يوما فحزمت حقائبي بعد عام واحد من رحيله ورميت نفسي في قوارب الموت مخلّفة ورائي أربعين عاما من الانتظار والتأهب والتجارب الفاشلة والأحلام المؤجلة لأبحث عن حريتي وسعادتي التي أقرنتها بالبلد الغريب.. ولأنّ أسرتي يعلمون بحجم العلاقة التي تربطني بأبي فقد اعتبروا السفر علاجا ناجعا لإنطفاء روحي التي غادرتني راكضة خلف بقايا أب.
بعد التعرّض إلى مختلف صنوف الخوف وإقحام نفسي في مجازفات لا تليق بأنثى.
وصلت أخيراً إلى الشاطئ فألقيت بجسدي بكل ثقله على رمال لا تشبه تلك التي تركتها خلفي في بلدي والتي تتناثر مخلفة وراءها أطنانا من الرمل الذي يلتصق بأرضيات المنازل والشوارع والنوافذ ويحيل مدننا الجميلة إلى كتل رمليَّة غير صالحة للعيش.. رمل الشاطئ يشبه كثيرا الحياة المرفهة التي ابحث عنها والتي آمل ان اجدها في بلد جئت إليه بعد أن تقبلت فكرة الزواج برجل عراقي قضى أغلب عمره في هذا البلد الغريب حتى جاوز عقده الستين.. قبلت به زوجا لأحصل على فرصة اللجوء مهما كان نوعه أو شكله أو أسلوبه وعشت معه أيامي الأولى سعيدة منتشية شاعرة بطعم الانتصار الكبير بعد أن حققت حلمي رغم طول انتظاري وتضحيتي بأمومتي ولكن تلك التضحية لم تمر مرور الكرام فقد خلفت في صدري كتلة لم أحسب حسابها وقررت ان أتركها حتى تقضي على حياتي ولكن زوجي رجل طيب وأقنعني بضرورة العلاج فعرفت طريق المستشفيات والمشارط وجلسات العلاج الكيمياوي وفقدت جزءا من جسدي غيب بعضا من أنوثتي... وحدي صارعت الألم رغم انتمائي لاسرة تتكون من ثلاث من الشقيقات كن يستخرجن كل مشاعرهن الدفينة من خلال الهاتف ولكنني لم أتمكن من الإمساك بكف إحدى شقيقاتي وأنا أتلقى جرعة العلاج الكيمياوي رغم كف زوجي التي لم تفارقني ولكني بقيت أبحث عن أسرتي الحقيقية في وجوه كل من صادفتهم حيث الثلوج التي تغطي القلوب كما تغطي قمم الجبال في هذا البلد... إنها غربة دفعت ثمنها اقتطاع جزء من جسدي وحرماني من شعور الأمومة ومعاشرة رجل أقضي أغلب وقتي في تطبيبه.