صورة العراق.. الخَرِب.. الجميلة على الميديا
محمد حاذور
وأنت في طريق العودة من البصرة، حينما تكون وجهتك المقصودة هي الناصرية، ستمر بسيطرة {تل اللحم} وبعد ربع ساعة ستلوح لك في الأفق ملامح المدينة المشيدة فوق أولى حضارات العالم (هذه الجملة التي تداعب شعورنا بالانتماء لحضارة في طريقها نحو الاندثار). لكن، إياك أن تلتفت إلى الجهة اليمنى في نهاية وأطراف المدينة التي ستدخلها، لأنها مكب النفايات وحقول المزابل وتلال من القذارة ستملأ عينيك.
هذه المشاهد يمكن أن تكون بوابة غير رسمية، إنما صنعتها السلطة بشكل غير مباشر واعتادت عين المار بجانبها على التآلف معها، فضلا عن حي الفداء السكني القريب من تلك المستنقعات الآسنة الواسعة بالرغم من مطالبات سكنته بإيجاد حل للمزابل والبرك إلا أن حكومة ذي قار صامتة ومعرضة عما يتجرّعه سكان تلك الأحياء من أمراض وقذارة وتشوهات خلقيَّة.
هذه هي المدينة التي تتغنى بها الأفواه والأصوات عن كونها رائدة العمران وبداية التقدم البشري، ما زالت على خرابها رغم أن حكومة الكاظمي أعلنت منذ نهاية عام 2019 "ذي قار مدينة منكوبة" فيما قال النائب في البرلمان العراقي أسعد ياسين: إن قرار اعتبار ذي قار مدينة منكوبة لا يرتب على حكومة الكاظمي أي التزامات مالية تجاه المحافظة. وإن عدم التزام بغداد بصرف أي مبالغ مالية إلى ذي قار، كون مسودة القرار المقدمة من برلمانيي المحافظة كانت مجردة من اية تفاصيل. وقبل سنة من الآن، أي بعد مضي سنتين على قرار حكومة الكاظمي، اطلقت إدارة محافظة ذي قار حملة حكومية وشعبية لاستحصال الحقوق المترتبة على القرار البرلماني بتصنيفها كمحافظة منكوبة، وفيما أشارت إلى أن القرار الذي صدر نهاية عام 2019 ما زال حبراً على ورق.
هذه هي المدينة التي تستقطب السياح الأجانب لرؤية الآثار السومرية ولزيارة أهوارها، لم تتحسن فيها نسبة الفقر والبطالة اللتين تقتربان من حاجز 35 بالمئة بحسب آخر الإحصاءات المدوّنة.
وتكاد تكون ذي قار فيما يخص التلوث البيئي والصحي من أعلى معدلات الإصابة بالتشوهات والتسرطن، وهذا بسبب مخلفات النفط وآبارها وحقولها والشركات التي لا تتخذ أية إجراء للحد من هذه الكوارث، إذ نشرت وكالة شفق نيوز مطلع العام الحالي ما يلي: مصدر طبي في دائرة صحة ذي قار، أبلغ وكالة شفق نيوز، أن "المحافظة مليئة بمصابي مرض السرطان وبأرقام اصابات كبيرة، لافتا إلى أنه لم يثبت لدى الدائرة شيء علمي أن مرض السرطان جاء بسبب تلوث المياه والهواء".
وذكر المصدر أن "أرقام الإصابات في المحافظة ارتفعت من 557 مصابا في عام 2006 إلى 1602 مصاب في عام 2019، فيما لم تصدر إحصائية بأعداد المصابين بالمرض خلال العامين الماضيين (2020 و2021) والتي من المتوقع أن تصل الاصابة فيهما إلى قرابة الـ 3000 شخص". وبَّين المصدر، أنّ "أعداد المصابين بمرض السرطان من سنة 2006 ولغاية 2019 بلغت 11 ألفاً و957 شخصاً مصاباً، ومن المرجح أن تتجاوز حاجز الـ 15 ألف إصابة، فيما لو أضيف لها احصائية عامي 2020 و2021 بعد إكمالها من قبل وزارة الصحة الاتحادية"، لافتا إلى أن "هذه الأعداد هي إصابات الأشخاص المسجلة رسمياً، بينما هناك المئات من غير المسجلين الذين يتلقون العلاج على نفقتهم الخاصة".
نغمة سمجة لتجميل قبحنا!
مع "هَبَّة" السياحة المستمرة لمدن العراق، السياحة التي تزور الآثار والمزارات والأسواق الشعبية وغيرها من النقاط التي تلمع في عيون السياح، رافقت ذلك شلة من الأدباء والكَتَبة والمدونين والناشطين، عبر التدوين والترويج وكتابة الديباجات التي من شأنها أن تنشر عن جمال العراق وكنوزه وبيئته ومزاراته. يقفز سؤال هنا في غاية الأهمية عن مدى استعداد المؤسسات المعنية بالآثار والبيئة والسياحة: هل توجد مرافق ومبانٍ وخدمات مناسبة ومؤهلة لأن تكون السياحة للأهوار أم للآثار في صورة لا بأس بها، أم أن أغلب إن لم تكن كل المزارات الأثرية في العراق، محاطة بالأراضي الجرداء الغابرة الخالية حتى من مصاطب للجلوس؟
يبدو العراق في عيون هؤلاء، ما زال في غاية الجمال، ويتوافر على حظوة في استقطاب السياح من كل بقاع العالم. يبدو العراق محتفظاً بإمكانياته ومجده بمعية تلك الأقلام. هذه الحالة غير الأخلاقية والتي تنفصل عن الواقع الرث المستشري بكل مفاصل البلاد بما فيه وما عليه، لا يعبأ بها الأديب والكاتب الذي يلوي صورة الواقع على عيون الآخرين عبر المديح والثناء لمنجزات السلطة، إذ لم ولن توجد هذه الصورة الجميلة المزيفة للعراق إلا عبر هؤلاء، لأنهم لا يكترثون لمآسي العراق وشعبهم. هؤلاء وما يفعلونه يمكن عنونته "بالمكابرة على القذارة" أهم شيء أن تكون الصورة التي تبتغيها السلطة وجيوب هؤلاء، جميلة ولامعة ومصبوغة بطلاء واهٍ.!
ثمة مثل من الأمثال الشعبيّة العراقيّة الجنوبيّة، يمكن سحبه على هؤلاء ومن معهم في حملة تزييف الخراب العراقي بالجمال. يقول المثل: "صِبْغَوْ بابهم وتَيَّهِتْهُمْ". بمعنى، أن أحدهم تاهَ عليه باب بيت الذين يقصدهم بعد أن صبغوه. فما إن تُصبغ الأسيجة والأرصفة والجدران، أو تقوم عصابة السلطة بتعبيد الشوارع الهزيلة والمتهالكة، حتى يأنس ويبتهج العراقي بهذا الفتات السمج. هذا الاستئناس الطارئ مع ما تقدمه السلطة، ليس نتيجة اعتباطيّة، إنما جاء عبر التربية الدينية (القناعة كنز لا يفنى) مع التربية الاقتصادية التي عززت تذليل سقف المطالب عند الفرد العراقي (النهب الممنهج لمقدرات البلاد) والاجتماعية (الرضا بالنصيب والقدر والقسمة) ثم تجرّع وابتلاع الفرد العراقي لكل أشكال التقزيم والخنوع والذل والهوان والظلم والإهانة بعد احتلال البلاد.
ما زلت أحتفظ ببوست لأحد أدباء البصرة عندما نشر على صفحته عن مدينة القِبْلَة المحاذية لجامعة البصرة/باب الزبير، وهو يقارن بين وضْعها في عهد صدام وعهد العيداني. ولم تكن الصورة التي نشرها سوى أرصفة وتبليط هزيلة لا تتوافر فيها أدنى شروط الكفاءة. وما دمنا بذكر البصرة (عروسة الشرق المغتصبة والخربة والمتربة) لا مبالغة لو وصفناها "البصرة العيدانية" إذ بمعيته ولذكر منجزاته، فقد غرقت مدينة النخيل بكافة أنواع المخدرات، إذ باتت الحشيشة -أخف أنواعها- مثل سيجارة عادية بين شبابها، إذ قالت محكمة استئناف البصرة عن أن 90 % من المعتقلين بتهمة تعاطي المخدرات كانوا عاطلين عن العمل. عن الأحزاب والمليشيات والعصابات التي تسرح وتمرح بها وبموانئها وحدودها كيفما اتفقت مزاجية رؤوس السلطة والإرهاب. عن التجريف الممنهج بتحويل الأرض الخضراء إلى وحدات سكنية وإعدام النخيل بتمويته بالمياه المالحة ثم الاستغناء عن درة الأشجار، إذ قالت عضو مجلس محافظة البصرة، زهرة حمزة، لشبكة رووداو الإعلامية إنّ "عملية تجريف بساتين النخيل في المحافظة جاء بقرار من الحكومة المحلية وبموافقة وزير النفط بغية تحقيق التعايش بين الزراعة والنفط". هذا هو نفطها الذي لا يرث منه المواطن البصري سوى الدخان والانبعاثات السامة والمميتة والمشوّهة والمياه الملوّثة بفضلاته. عن أوكار وعصابات التسول التي تستغل النسوة والأطفال وبات مشهدها من المألوفات في بصرة الخير، لأن عدد المتسولين فيها بلغ قبل ثلاث سنوات ما يقارب ثلاثة آلاف. فضلا عن ذلك، ثمة تربية ميديوية، مع طبيعة الفرد العراقي، التي تغض البصر عن القبح وتنظر إلى الجانب المملوء من الكأس: أسهمتا بتقنيع وخداع الرأي العام وعين المتلقي بأن العراق ما زال في صباه، يمرض ولا يموت، فضلا عن أن خوارزميات الميديا التي نمّطت ورَبّت المتجولين في درابينها على الاكتراث بهذا الموضوع وتجاهل ما لا تستغيه عين المشاهد.
مِمَّ جاءت طيبة الشعب العراقي؟
هل ثمة دولة على امتداد المعمورة، تقدم الخدمات بكافة صورها وأشكالها، لسياحها، مثل العراق بشكل مجاني مع ابتسامة وعن طيب خاطر؟
هذا ما لن يحصل في كل البلدان، ذلك أنها، أي البلدان، تقيم وزناً تاريخيا واقتصاديا وسياسياً لسياحها. إذ لا يُدوّن التاريخ طيبة الشعوب بل الأرقام السياسية والاقتصادية.
هل دوّن التاريخ بصفحاته، عن شعب اتَّصف بالقوة والطيبة في الوقت ذاته، أم أنها، أي الطيبة، حصة الشعوب المقهورة بعد أن تتخم بالحروب العسكرية والاقتصادية والنزاعات الدينية والاجتماعية والأخلاقية.
الطيبة، حصة روح الفرد العراقي المقهورة والمسلوبة من كل حقوقها. هذه هي الصورة السلبية لطيبة العراقيين، بدليل أن محمد الحلبوسي في أحد لقاءاته، يتحدث عن نفط البصرة وطيبة أهلها. إذ يقول: "لو كان نفط البصرة بمحافظات أخرى (ويقصد محافظة الأنبار) "تنكة" وحدة ما تعبر، بس أهل البصرة طيبين زيادة".
فضلا عن ذلك، ثمة استغفال وضحك على ذقون العراقيين عبر وصفهم بالطيب والكرم، لأنّه، ما من شعب يتعرض لكل ما تعرض له وما زال، ثم يقبل أن يتحلى بالكرم، إنما بسبب تقزم روح الفرد لكي يكون لقمة من اليسير لوكها، يقدم لسادته كل ما يبتغون بطيبة وبشاشة.
هذه هي الصورة المزيفة التي روج لها عبر السياح ومن يرافقهم بجولاتهم بصورة مباشرة وغير مباشرة، إذ بات السائح لا ينفق ديناراً داخل العراق بمعية الصورة المصنوعة والمفروضة على العراقيين. صنعت هذه الصورة بطريقة ما، حتى شاعت وأصبحت واقعية، إذ من الطبيعي أن تنخدع الشعوب المحتلة بالوهم
والزيف.
طيبة العراقي يضاف لها، هو أن الفرد العراقي سمح لهؤلاء وانطباعاتهم المزيفة غير الأخلاقية عن العراق أن يستدرجوه لما يبتغون ونجحوا في جعل العراقي يصدق نفسه بأنه طيبٌ وليس نتيجة للكوارث والحروب التي تجرّعها، ذلك يتضح مع العرف الاجتماعي الراسخ في العراق، بأن "الطّيب ماكول خيره".