منصورة عزالدين: الكتابة تُبصِّرنا أكثر بما نكتب عنه

ثقافة 2023/08/01
...

  كه يلان محمد
  هوية النص الروائي بالدرجة الأولى هو المستوى التعبيري، الذي يكون قواماً لآلية السرد وتسلسل معطياته في سياق مقنع، وهذا ما أدركته الروائية المصرية منصورة عزالدين وهي تعدن اللغة بنفس الصائغ المتقن، واللافت في تجربة مؤلفة «أخيلة الظل»، هو القبض على ثيماتٍ تكسر من خلالها الحاجز بين الأزمنة المتباعدة، كما أن المدن والأمكنة التي تتحرك فيها شخصياتها الروائية، ليست خلفية مكملة للإطار فحسب، بل هي تتخذ مواصفات شخصيات ملحمية، الأمر الذي ما تراه بالوضوح في معظم أعمالها وفي روايتها الجديدة «بساتين البصرة» على وجه الخصوص حول اشتغالها الروائي وآليات التعاطي مع التاريخ. كان لنا حوارٌ مع صاحبة «مأوى الغياب».

*تتجاور الأزمنة في رواياتك الأخيرة وتنتقلُ شخصياتها بين عصور مختلفة، مستعيدة حيواتها السابقة، لماذا اخترت هذا المنحى في الكتابة؟

الزمن بالنسبة لي يشكل لغزًا وسؤالًا، وأنا تستهويني الأسئلة والألغاز؛ كل ما هو منقوص وغامض وإشكالي يحفز مخيلتي ويلهمني. نقطة أخرى تتمثل في أن مضمون الرواية يتكامل مع بنيتها، أو بالأحرى قد يتطلب موضوعًا ما شكلًا معينًا، وبالتالي يكون الأمر أبعدَ من أن الكاتب يختار هذا المنحى أو ذاك. في «بساتين البصرة»، انطلقت من حلم وارد في كتاب تفسير الأحلام الكبير المنسوب للإمام أحمد بن سيرين، الحلم فسره الإمام الحسن البصري، وبالتالي وضعني هذا في سياق زماني ومكاني بعينه، وفي الوقت نفسه انبثقت شخصية البطل المعاصر هشام خطاب في ذهني، وكان إلحاحها قويًا لدرجة لا يمكن تجاهلها، ومن ثم عملت على الوصل بين زمن هشام خطاب وزمن الحسن البصري وواصل بن عطاء. وحين كتبت عبارة «الزمن نهر سيَّال والمكان وهم»، شعرتُ بأنها تقترح عليّ من طرف خفي تقنية كتابة الرواية.
في «جبل الزمرد» هناك زمنان مختلفان أيضًا، لكن التعامل مع الزمن مختلفٌ في الروايتين، أما «أخيلة الظل»، فبعيدة عن هذا، والعلاقة بالزمان والأماكن فيها تتسم بدرجة أكبر من التركيب واللعب.

*تحيل معظم عناوين أعمالك الروائية إلى الأمكنة هل تعتقدين بأنَّ هناك أمكنةً ملهمةً أكثر من غيرها أو أنَّ خيال المبدع يمكنهُ من تحويل كل مساحةٍ بغض النظر عن خلفيتها التاريخية والثقافية إلى نواةٍ لعالم روائي؟

الأمران معًا، ثمة أمكنة ملهمة جدًا بطبيعتها ومحفزة للمخيلة لأسباب بعضها له علاقة بتاريخها وموقعها وطبيعتها، وبعضها الآخر شخصي، أي ناتج عن الصلة التي يكوِّنها كاتب بعينه مع هذه المدينة أو تلك. فقد تكون مدينة ما ملهمة جدًا لي، لكنها ليست كذلك لغيري، والعكس صحيح. وفي المقابل، وهذا ما أفضِّله، يمكن لخيال المبدع تحويل كل ما يراه ويختبره ويمر به إلى منبع للإلهام. لهذا دائمًا ما أشدد على ضرورة أن يعيش الروائي ويتعامل مع العالم من حوله طوال الوقت باعتباره روائيًا في المقام الأول، هكذا سينتبه إلى أدق التفاصيل ويلمح المألوف في الغرائبي، ويفطن إلى مكمن الغرابة في الاعتيادي واليومي ويضع يده على المفارقات والتناقضات الرهيفة. الكتابة تبدأ من خارجها، قبل مرحلة التدوين، أي من طريقة رؤية العالم وزاوية النظر التي يبصره بها الكاتب. من يعتمد هذه الطريقة يمكنه ابتكار فنه من أبسط الأشياء وأخفتها، ومن أي مكان يوجد فيه.

*حظيت رواية «بساتين البصرة» وشخصياتها العجائبية، التي تتراوح بين عصرين متباعدين باهتمام القراء والمتابعة النقدية، كما ترجمت إلى عدة لغات هل تعتقدين بأنَّ الرحلة الفكرية لحواضر تاريخية تكسبُ الكاتب صورة واضحة عن هوية المكان؟ وماذا يجمعُ بين المنيا والبصرة؟

يعتمد هذه على الجهد المبذول من الكاتب للإلمام بهذه الحواضر وتاريخها، خاصة في الفترة الزمنية التي يتناولها، وعلى طريقة تعامله معها فنيًا: هل يهدف لكتابة عمل واقعي مشغول بالتفاصيل الدقيقة؟ هل الحاضرة التي يكتب عنها هي البطل الأساسي لعمله أم خلفية تدور فيها الأحداث؟ هل يطمح لابتكار نسخة خيالية مُخترَعة للمكان تحيله إلى مكان مفارِق للواقع بطريقة ما؟ هذه أسئلة ضرورية هنا، لكن بشكل عام، الكتابة تُبصِّرنا أكثر بما نكتب عنه وتساعدنا على سبر أغواره. اعتدت قول إنني أمتلك المدن الغريبة بالكتابة فيها، حيث توهمنا الكتابة بامتلاك الأماكن التي نكتب فيها أحد نصوصنا، وتخلق صلة لا تنفصم بيننا وبينها، يحدث هذا على نحو أعمق مع المدن التي نكتب عنها أو نستلهمها في نصوصنا، خاصة أن علاقتنا بها، في معظم الأحيان، تكون موجودة قبل ذلك عبر القراءة عن تاريخها، وعن أعلامها ولهم.
أما بالنسبة للمنيا والبصرة، فما جمع بينهما هو الخيال والكتابة. كتبت رواية “بساتين البصرة” خلال إقامة أدبية في مدينة شنغهاي، واعتدت التندر وأنا هناك بأنني آخيت بين ثلاث مدن، قد لا يجمعها ببعضها البعض سوى أقل القليل، لكن حقيقة الأمر أن الكتابة والخيال هما من فعلا هذا؛ إذ لديهما القدرة على اختراع صلات وروابط بين أبعد الأشياء وعلى المصالحة بين أزمنة متباعدة وأمكنة شديد الاختلاف عن بعضها البعض. البصرة هي أساس الرواية؛ بما أن بعض أحداثها يدور على هامش نشأة المعتزلة، أما المنيا فاخترتها لأنها تواءمت مع المدينة التي أردتها أن تكون مسقط رأس بطلي هشام خطّاب، أمه ليلى من قرية شمالية تقع في حضن النيل، وهي شديد التعلق بالنهر، عاشت بعد زواجها في مدينة جنوبية مطلة عليه أيضًا، من بين المدن الجنوبية المطلة على النيل التي زرتها، كانت المنيا هي الأكثر ملاءمة لتصوري عن مسقط رأس هشام. غني عن القول إن الارتباط بالسيرة الهلالية أقوى في صعيد مصر منه في شمالها، ووالد هشام خطاب من المفتونين بسيرة بني هلال.

*لا يغيبُ التاريخُ في اشتغالك الروائي لكن ما ينهلُ منه لا يُثقلُ حركة السرد ولا يؤدي إلى رخاوة النص برأيك ماهي الآلية الأمثل لتعاطي الروائي مع المرجعية  التاريخية؟

في رأييّ أن التعامل مع التاريخ قد يمثِّل فخًا للروائي إن لم يضع جماليات الفن الروائي نصب عينيه طوال عملية الكتابة، وأقصد بهذا، الانتباه إلى ضرورة مقاربة التاريخ بمقتضيات الفن، وتطويعه لخدمة فن الرواية وليس العكس. إن وَعَى الكاتب هذا، لن يُثقِل حركة السرد، ولن يقع في أسر شهوة استعراض معلومات تاريخية فائضة عن حاجة النص. أقرأ أحيانًا بعض الروايات التاريخية، فأشعر في بعض أجزائها أنني أقرأ كتاب تاريخ وليس رواية، والمشكلة أن هذه الأجزاء، تؤدي في الغالب إلى ترهل السرد ولا تلقي بالضرورة ضوءًا على شخصيات العمل أو أحداثه.
في كتابتي أفضِّل الاستعانة بلمحات خاطفة أرى أنها تحقق غرضًا فنيًا أسعى إليه. لكن في النهاية، كل كاتب يكتب انطلاقًا من قناعاته ومن رؤاه الفنية، والفن بكل أنواعه قائم على الحرية، وبالتالي لا توجد آلية أمثل على نحو مطلق، الفكرة كلها تتمثل في المرونة ومساءلة تصوراتنا المسبقة واختيار الآلية المُثلى لهذا العمل أو ذاك تحديدًا. إذ قد يختلف الأمر من رواية لأخرى، وفقًا لفكرتها وطموحها الفني والمدى الزمني الذي يرغب المؤلف في تناوله. فكتابة رواية تاريخية ملحمية، وتطمح إلى إعادة تجسيد حقبة تاريخية بعينها، أمر يختلف عن كتابة رواية تلتقط من التاريخ عناصر معينة لكتابة عمل فلسفي أو غرائبي أو تدمج بين حقب مختلفة. المهم في كل الأحوال، الوعي بأن ما يُكتَب هو عمل فني يضيء بقعًا مسكوتًا عنها ويطرح جديدًا سواء على مستوى الرؤية أو على مستوى تقنيات الكتابة، وليس
مجرد محاكاة باهتة لأحداث تاريخية معروفة.

*يتخيلُ للمتلقي بأنَّ ما يقابلهُ في رواية «بساتين البصرة» من الشخصيات والعوالم الغرائبية هو سيرة قراءة الكاتبة، وتفاعلها العميق مع رموز فكرية وصوفية، هل تهمك فعلًا مشاركةُ الآخر لتجربتك في
القراءة؟

أتذكر أن جوان ديديون قالت مرة ما مفاده بأن الكتابة تنطوي على درجة ما من فرض أنا الكاتب، أو على الأقل تنطوي على سعي لجعل القارئ يرى العالم بعينَي الكاتب، وأن يتبنى نظرته للأمور. لستُ مع مفردة «فرض»، لأن البراعة – إن وُجِدت- تتكفل بسحب القارئ بخفة ونعومة إلى عوالم الكاتب ورؤاه؛ أي أن المسألة أقرب إلى الإغواء منها للفرض. بالنسبة لي الكتابة يدٌ ممدودة صوب الآخر، رغبةً في مشاركته خيالاتنا وهواجسنا ورؤانا وعوالمنا الفنية. لكن حين نتكلم عن القراءات؛ فالأمر أكثر إشكالية
وتعقيدًا.
لو أردت مشاركة قراءاتي مع القارئ للجأتُ إلى فن المقالة، مثلًا أو إلى الكتابة غير الروائية، لكن في حالة الرواية فمعارف الروائي أو قراءاته من الأفضل أن تتجلى برهافة بين السطور لا أن تكون مقحمة أو مباشرة، وإلا فثمة مخاطرة بتحولها إلى نوع من الاستعراض. الكاتب الجيد قارئ جيد، والقارئ الجيد هو من يتمثَّل ما يقرأ ويتفاعل معه ويحيله خلقًا آخر، وربما يكون هذا ما قصدته أنت باختيار مفردة «التفاعل» في سؤالك، والتفاعل والتمثُّل كفيلان بتحويل الثقافة والمعرفة إلى تجليات رهيفة أقرب إلى التلقائية والفطرية.خلال كتابة «بساتين البصرة» مثلًا، قرأت كثيرًا عن فلسفة المتكلمين وعن المعتزلة، لكنّ ما اهتممت به حقًا هو كيفية تضمين مبادئ المعتزلة وأفكارهم في أحداث وتفاصيل صغيرة في حيوات الشخصيات: سؤال القدر مثلًا، وهل الإنسان مخير أم مسير؟ مرتكب الكبيرة والمنزلة بين المنزلتين، تجلت في الرواية في صيغ فنية مراوغة على عادة الفن في المراوغة والبعد عن المباشرة.نقطة أخرى أود الإشارة إليها هي أن مصادر الروائي، ومنابع إلهامه لا تقتصر على الكتب والقراءات فقط، بل تنبع بالأساس من الحياة وخلاصة خبرات الكاتب أو ما يشهده من خبرات الآخرين فيها، ومن تأمله للطبيعة وظواهرها. يمكن للكاتب أن يتعلم الكثير من الطريقة التي يتسلل بها الضوء إلى العالم بعد الفجر؛ بخفوت ونعومة وبلا ضجيج، كأنما يخطو على أطراف أصابعه. فالكون والطبيعة من حولنا خير معلمي الفن، لكن فقط لمن يريد الرؤية ويرغب في التعلم.

*في روايتك “أطلس الخفاء “ تتواردُ إشارات بأنَّ جذور مراد تعود إلى إحدى شخصيات “بساتين البصرة” هل التواصل بين العملين هو نتيجة للتقارب في زمن الكتابة؟

مراد كان في الأصل إحدى شخصيات بساتين البصرة، إذ تكونت الرواية في مرحلة ما من مراحل كتابتها من ثلاثة محاور متوازية، أولها محور هشام خطَّاب في حياته المعاصرة بين القاهرة والمنيا، وثانيها محور البصرة القديمة، وثالثها محور مراد وعالمه أو عوالمه لو شئنا الدقة. م بعد الانتهاء من المسودة الثانية، أو ربما الثالثة، شعرت أن الأجزاء الخاص بمراد تثقل حركة السرد، وتبطئ إيقاع الرواية عن الإيقاع الذي أريده، فاستبعدت هذه الأجزاء، وأعدت الكتابة بعد استبعادها، وبعد نشر «بساتين البصرة»، عدت لمراد، واشتغلت على الأجزاء الخاصة به، وفي ذهني أن تكون «نوفيلا» متصلة بـ»بساتين البصرة» ومنفصلة عنها في الوقت ذاته. كنت قد أبقيت على إشارات عابرة لمراد في بساتين البصرة، باعتباره شقيق ليلى أم هشام خطَّاب الذي تشتاق إليه وتتذكره في سنواتها الأخيرة، وبالتالي من المنطقي، أن تحضر ليلى في صباها في ذكريات مراد، وكذلك أن يطل طيف الجدة خديجة على حياته، وهي المشار إليها عابرًا في «بساتين البصرة». لكن تقنية الكتابة مختلفة في كل رواية من الروايتين وكذلك طموح كل عمل وأسئلته، حتى وإن وُجدت بعض الروابط للأسباب التي ذكرتها توًا.

*من هم الكتاب الذين رغم إعجابك الشديد بأسلوبهم واختياراتهم الإبداعية تريدين مخالفتهم في الكتابة؟

المفترض بكل كاتب أن يكتب وفق رؤاه الفنية وأن تكون له بصمته الخاصة، وأن يعزز ما يميزه عن الآخرين، وبالتالي فمن الطبيعي أن يكون هناك كتاب نراهم جيدين، أو نُعجب بكتاباتهم، لكننا نخالفهم بالفعل، ولا نكتفي بمجرد الرغبة في المخالفة. قرأت آني إرنو مثلًا وأنا طالبة جامعية، لأن أعمالها تُرجِمَت مبكرًا في مصر، ولفتت كتابتها نظري، لكنها بعيدًا تمامًا عن أسلوبي في الكتابة، وعن زاوية النظر التي أقارب الإبداع منها. أيضًا يعجبني خابيير مارياس وأسلوبه القائم على الاستطرادات اللانهائية، لكنه أسلوب يخصه وحده، ولا يُقنعني كثيرًا لدى آخرين، وكذلك طريقة زيبالد في الكتابة، والتي كثيرًا ما تُحاكى من كتاب من الشرق والغرب، وإن ليس بأصالته نفسها.

*نشرت لك مجموعة قصصية «مأوى الغياب» قبل إصدار «بساتين البصرة» و»أطلس الخفاء»، هل تعتقدين بأنَّ كتابة القصة هي محترف للملمة الأفكار واستنفار طاقات اللغة قبل شروع بالدخول في حلبة رواية جديدة؟

لا أفكر في الأمر على هذا النحو. أرى أن القصة القصيرة فن قائم بذاته، والانتقال بينها وبين الرواية – في حالتي على الأقل- لا يحدث بقرار مسبق. بدأت بالقصة القصيرة، ثم انتقلت منها للرواية، وبعد روايتي الأولى ظننت أنني لن أكتب القصة القصيرة مجددًا، ثم حدث أن نشرت مجموعتي الثانية «نحو الجنون»، والتي كُتبَت قصصها على مسافات زمنية متباعدة. في حالة «مأوى الغياب» كان الأمر مختلفًا، إذ كتبتُ هذه المتتالية القصصية كالممسوسة، كل نص فيها تولَّد من سابقه، ولم أستطع البعد عنها قبل إنهائها، رغم أن نصوصها باغتتني في ذروة انشغالي بعمل روائي كنت في المرحلة الأخيرة من
كتابته. تركت مسودة هذه الرواية وانغمست في كتابة «مأوى الغياب»، التي تلعب في المساحة البينية بين القصة والرواية، كونها متتالية قصصية قصصها متصلة ببعضها بعضًا على نحو واضح. في المقابل فإن ما أعتبره محترفًا للملمة الأفكار واستنفار طاقات اللغة أو حتى تمرينًا متواصلًا لعضلة الكتابة والمخيلة، هو تدوينات أداوم على تسجيلها أقتنص بها أفكارًا عابرة تلح علي فجأة أو موقفًا مررتُ به أو حتى أحلامًا حلمتُ بها، وشعرت أنها قد تكون ملهمة مستقبلًا. وبعض هذه التدوينات قد تكون ملاحظات أستخلصها على هامش كتابة عمل إبداعي ما، ومع الوقت صار لدي مخزون من ملاحظات أعود إليها، فتذكرني بما اختبرته خلال عملية الكتابة، وما أوقفني لفترة وكيف تغلبت عليه وواصلت الكتابة.