انهيارات القراءة.. الكل مدان ولا براءة لأحد

ثقافة 2023/08/02
...

 بغداد: نوارة محمد 


مهما كانت رداءة العصر الذي نحن فيه ومهما كانت درجة الجهل والاسفاف وحتى الابتذال الفكري، فإن مسؤولية دور النشر تكون كبيرة لاعتبارات تربوية وأخلاقية. وبغض النظر عن كون دور النشر مؤسسات ربحية وتجارية، فإن مسؤولية النهوض الفكري تقع عليها فهي أولا وأخيرا دور لإشاعة الثقافة الرصينة وبناء الإنسان.

في العقدين الاخيرين تعرضت دور النشر الرصينة إلى مداهمات من الطارئين وسعاة الربح الرخيص، ورأينا أن أغلبهم يتسارعون لنشر أردأ أنواع الكتب سواء في المضمون أو في اشاعة انماط كتابية مشوهة، ما اثر سلبا على المتلقي وبالتحديد على توجهات القراء الشباب، الأمر الذي أدى إلى تراجع كبير في الثقافة العراقية، بينما جرى تجاهل النماذج الابداعية الرصينة. 

مسؤوليّة دور النّشر في استشراء هذه الأزمة وتجذيرها في واقعنا الثّقافيّ كبيرة وسرعان ما فرضت ثقافة الصورة هيمنتها فسارعت بعض دور النّشر إلى الاهتمام بالقيم الجمالية، بغض النظر عن المحتوى الثقافي والاجتماعي التي تبثهُ هذه النتاجات لاسيما في ظل عصر التفاهة.

يقول الناقد والكاتب الدكتور أحمد جار الله ياسين، إن «انتشار الكتب الرديئة إشكالية معقدة ذات صلات بأكثر من طرف يسهم فيها بشكل أو بآخر وحسب المبررات، فدور النشر تبرر قبولها الكتب الرديئة لحاجتها المادية لاسيما بعد ان بدأت تنافسها الكتب الالكترونية، وأحيانا استجابة لحاجة القارئ الذي باتت ثقافة التفاهة ومنتجاتها المطبوعة تجذبه إليها.

أما اصحاب تلك الكتب فيجدون ألا أحد يستطيع منعهم من طباعة الكتاب في ظل غياب الرقابة المؤسساتية وفكرة الحرية الرائجة في هذا العصر من دون حدود معينة، ويبقى الدور الاساس على النقاد الذين يسهمون ايضا بالترويج لمثل هذه الكتب عندما يصنعون نصوصا موازية لها سواء بحفلات التوقيع أو الدراسة النقدية عنها أو تزكية اصحابها  للمشاركة في الفعاليات الثقافية وهنا أجد دور النقاد هو الأخطر لأنهم بتلك الأفعال يمنحون الكتب الرديئة صك المرور إلى القراء، فضلا عن مرورها إلى المطابع ولاشك أن السبب وراء ذلك يكمن في المنفعة المادية للناقد ايضا التي يجنيها من أصحاب تلك الكتب أو المنفعة المعنوية من جهة، كونه صديقا لهم ويدخل في باب ما نسميه (الشللية أو الاخوانيات) 

ويتابع إن «معالجة هذه الظاهرة تبدأ من المؤلف نفسه الذي عليه ألا يتعجل في النشر قبل اكتمال تجربته، فضلا عن ضرورة أن تضع دور النشر حدا أدنى في الأقل لمستويات الكتب التي تطبعها وهذا الحد يمكن ان يخططه رقيب أو لجنة رقابية استشارية في كل دار نشر يعرض عليها المخطوط قبل طباعته لتقييمه من جهة الجودة والصلاحية. وعلى النقّاد أيضا أن يراجعوا أنفسهم قبيل خط حرف واحد عن أي نتاج رديء كون نصوصهم النقدية عن الكتب  أمانة أخلاقية عليهم المحافظة عليها وعلى اسمهم النقدي في تاريخ الثقافة». 

ويضيف: ولدينا أسماء كثيرة معروفة وقعت في تلك الأخطاء تحت مبررات معيبة، ليسوا بحاجة إليها، نظرا إلى مكانتهم التي تصنف بالكبيرة، مع أن أفعالهم تلك لا تخرج عن إطار المنافع المادية التي هم في غنى عنها لو احترموا مكانتهم، فضلا عن انتهازهم للعلاقات ومكاسبها من مهرجانات وندوات ودعوات، ومثل هؤلاء  اسهموا بأفعالهم السيئة بجانب كبير من خراب الثقافة العراقية، عندما جعلوا الرديء في المقدمة وشجعوه على النشر وأغفلوا الموهوب والمبدع وجعلوه في الظل من اهتمامات دور النشر التي يديرها احيانا تجار لا علاقة لهم بالثقافة.. أما إذا كان المؤلف امرأة فإن بعض دور النشر على استعداد لطبع ليس كتابتها العادية أو الرديئة وانما طباعة حتى عطستها وسعالها. 

من جهته يذهب الناقد والصحفي علاء المفرجي  إلى عدم التعميم، «لا سيما أننا نواجه جماهير تميز الجودة من الرداءة وثمة نضج فكريّ نخبوي يؤسِّس لخطاب فعّال وإيجابيّ يميِّز الجودة من الرّداءة، وتكون له ردّة فعل من دون أي مساس بمكوِّناته المؤسِّسة للبنية الفكريّة». 

ويضيف أن «دور النشر موجودة بأعداد كبيرة عندنا، لكن هل توافرت لها شروط دار النشر المستوفية لكل العناصر الحضارية بعملها؟.. وبالتأكيد الكاتب أو بمعنى أدق الذي يبغي نشر كتابه، له رأي بدور النشر، تبدأ من مبدأ التسويق الذي تعتمده، وانتهاء باحترامها للكتاب».

ويرى المفرجي أن دور النشر العراقية لا تزال تتعاطى بنفس تجاري تجاه إصدار الكتب ومنح الكاتب صفة الارتقاء وتصدر المشهد من خلال ما تصدره له، فلم نجد حتى اليوم أي دار نشر عراقية عملت على إحالة نص الكتاب إلى خبير أو لجنة خبراء، ذي دراية، أو حرصت على استكتاب أحد الأدباء والكتاب العراقيين، أو منحته تفرغا أدبيا لنشر كتاب، أو نظمت عقدا يمنح الكاتب حقوقه المشروعة، أو تتولى هي بترشيح عمله للجوائز الأدبية، أو وضعت خطة للترويج والاعلان عن الكتاب، في وسائل الاعلام المختلفة.. طبعا الامر ليس مطلقا، فهناك استثناءات بطبيعة الحال. 

ويتابع المفرجي «دور النشر المحترمة، لم يبق منها سوى العدد اليسير، فقد كانت تلك الدور، تبحث وتسعى إلى الكاتب المبدع، لتنشر نتاجه، مع دفع مستحقاته، لكن بات الامر معكوسا، فالكاتب هو من يسعى الآن، والبعض «يستجدي» موافقة ما تبقى من دور النشر، ان تنشر ما كتبه، مجانا، بعد أن يسهم بتكاليف الطباعة. هذا الانطباع موجود الآن، لكن مسكوت عنه ، من اجل بقاء بعض ماء الوجه.. والخلل هنا، ليس في المؤلف، بل بظروف النشر،  مثل تكلفة انتاج الكتاب، وعزوف القراء، الذين اتجهوا إلى وسائل التواصل الاجتماعي أو المواقع الالكترونية التي تتعاطى مع الأدب، وهي كثيرة ..اما هل تسهم دور النشر، بالترويج للكتب الرديئة، فأقول نعم.. وبالفم المليان، اسهمت وتسهم، فمعايير الكفاءة والابداع مفقودة، طالما أن من يريد النشر ما عليه سوى دفع مبالغ الطباعة، فكتاباته هي للإهداءات فقط، أو خزن في البيت أو للتباهي، أو العرض في ندوات هلامية لاتسمن من جوع ..دور النشر الرصينة كانت.. ثم اضمحلت، وفي قادم السنين ستبقى مجرد اطلال ذكرى.