الاجتهاد وضرورة التجديد
د. حيدر عبد السادة جودة
ظلّت مقولة الاجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي من أهمِّ المقولات التي يتحرَّك في فضائها عمل الكثير من دعاة الإصلاح والنهضة، من علماء ومفكرين ومثقفين على مدى العقود المنصرمة.
ويُعدُّ الاجتهاد من الأساليب والأدوات التي هي في أمس الحاجة إلى التجديد وبعث الحيويَّة والنشاط فيه، بوصفه محرك الفكر الإسلامي على مختلف مجالات الحياة. إذ إنَّ عماد المجتهد في اجتهاده، إنما هو فهم المبادئ العامة وروح التشريع التي يبثها الشارع في مختلف أحكامه ويُبنى عليها تشريعه.
ويعرّف الأصوليون الاجتهاد بأنه بذل الفقيه غاية جهده لتحصيل حكم شرعي ظني، بحيث يشعر مع نفسه أنه عاجز عن المزيد من ذلك. في حين يُعرّف في الأوساط الأخرى على أنه الوسيلة المجدية التي يمكن من خلالها إيجاد حلول معينة لمشكلات معينة، تطرحها المتغيرات المتلاحقة التي تفرض على الأفراد والجماعات ضغوطاً تملي ضرورة البحث عن الخروج بفتح السبل أمام العقل للوصول إلى مناطق آمنة. وأنَّ مقولة الاجتهاد والتجديد ترتبط ارتباطاً عضوياً مع الزمن، وبفكرة احتواء المعرفة البشريَّة واستيعابها، والارتفاع إلى مستوى لغة الخطاب المعاصر واستفهاماته. لذلك فإنَّ لكلِّ زمان اجتهاداته، على أساس أنَّ اختلاف طبيعة البيئة واحتياجاتها قد تتغير من حالٍ إلى حال، فيجب مراعاة الزمن في التعامل مع هذه الإشكاليات، على أساس أنَّ الخطاب الديني يأتي كرسالة على نحو ما يستجيب لحاجة تجاوز الباطل المعين الذي يقابلها، فالخطاب الديني- بحسب حسن الترابي- قد يتنوع في مداه وصوره بحسب حاجة كلِّ رسالة مهما كان مغزاها. وهو نقطة الانطلاق لتقديم حلول للواقع في ضوء معطيات الدين ضمن الدائرة الدينيَّة. فالاجتهاد ذو علاقة وطيدة بالواقع، فهو لا يتعامل مع إشكاليات الحاضر باجتهادات السابق، بل يحاول أنْ يصيغ اجتهادات تتوافق مع متطلبات العصر والحاضر.
ويؤكد الغرباوي أنَّ الاجتهاد قد عبّر عن أعمق أنموذج لتجديد فهم الدين، ورفده بطاقة مستمرة لمواكبة الحياة وتحولاتها المتنوعة، وكانت أفدح خسارة مُني بها العقل الإسلامي هي القرار المتعسف بإقفال باب الاجتهاد. فبإقفاله توقفت عجلة التقدم والتطور، فبدلاً من أنْ يسير الفكر نحو الأمام أخذ يتقهقر إلى الخلف ليكرِّس الجمود والتقليد. وكما يقول مالك بن نبي: “هكذا يتجمَّد الفكر ويتحجَّر في عالم لم يعد يفكر في شيء”، إنَّ التقليد الخلفي يقتضي التخلي عن الجهد الفكري حتماً، أي عن الاجتهاد الذي كان الوجهة الأساسيَّة للفكر الإسلامي في عصره الذهبي. فالاجتهاد ضرورة من ضرورات الحياة، فلا تستقيم حياة مجتمع بالميل إلى الجمود، فلا يتطور إلا من خلال الاجتهاد. وقد أخذت الرؤية التجديديَّة أولى صورها ودعواتها الواضحة عندما فُتح باب الاجتهاد في القرنين التاسع عشر والعشرين في ما عُرف بـ “عصر النهضة”, حين دعا محمد عبده بوضوح إلى فتح باب الاجتهاد. ومع أنَّ الاجتهاد يختلف عن التجديد، على أساس أنَّ الأول ينحصر في التجربة التاريخيَّة الإسلاميَّة في الجانب الفقهي، في حين أنَّ التجديد يفتح معنى الاجتهاد على مختلف العلوم الإسلاميَّة والمجالات المجتمعيَّة المرتبطة بها، بما يعني أنَّ التجديد أوسع من الاجتهاد. إلا أنه يبقى تعبيراً عن منزع تجديدي في الاتجاه الذي يخدم الإنسان ويصنع الحضارة. أي إنه باختلافه عن التجديد، يبقى بمثابة الخطوة الأولى لتثبيت مشروعيَّة التجديد، إذ يتحرَّك كلاهما باتجاه هدف واحد، والمتمثل بالتحصين وبيان المفاهيم والأحكام والمقولات والتصورات الإسلاميَّة بلغة العصر. فالاجتهاد إذن، مسألة حيويَّة وحياتيَّة بالنسبة للفكر الإسلامي، فلو لحق ضرر بهذا الفكر أو أنَّ التعاليم الإسلاميَّة تعجز عن الإجابة عن الحاجات الدينيَّة البشريَّة، فلا بد من إعادة النظر في الاجتهاد بوصفه محرك الإسلام والتعاليم الإسلاميَّة.
وبذلك فهو ليس حكراً على الفقهاء والأصوليين، كما يزعم البعض، فإنَّ حصر الاجتهاد والتجديد في المجال الفقهي وحده، والنظر إليه بوصفه تلك الممارسة المقيدة بقواعد ومقدمات وآليات استخراج الأحكام الشرعيَّة، تسبب في ولادة أزمة عميقة عطلت نمو الفكر الإسلامي على نحو عام، وتسببت في ثبات وجمود المفاهيم والتصورات ووسائل النظر وبقائها على لغتها القديمة وإشكالاتها السابقة. لذلك يقول (الشاطبي): لا بد من الاجتهاد في كل زمان، لأنَّ الوقائع لا تختص بزمانٍ دون زمان. ولأنَّ الأحكام لا بد أنْ تظلَّ خاضعة لعمليَّة إنتاج دائمة متجددة، وذلك بقصد مسايرة الزمان والتغير في الأحوال، ووضع مصالح الناس واختلافهم بالحسبان، وهذا ما يؤكده مسكويه في قوله: إنَّ بعض الأحكام تتغير حسب الزمان وحسب العادة، وعلى قدر مصالح الناس... فربما كانت المصلحة اليوم في شيء، وغداً في شيء آخر.
وبالتالي فلا سبيل إلى التجديد من دون الاجتهاد، إذ إنَّ هذا الأخير- أيّ الاجتهاد- يمثل السمة الأولى والمحددة لعمليَّة التجديد، فلا يمكن للتجديد أنْ يستمرَّ من دون تفعيل عمليَّة الاجتهاد، على أساس أنَّ للاجتهاد والتجديد فاعليَّة ضرورية، وممارسة حيويَّة لتفسير الظواهر والمفاهيم الدينية، وتفعيل حركة التشريع والتنظيم بهدف توفر الحصانة العقائديَّة والفكريَّة والتشريعيَّة للفرد والمجتمع. وهما في علاقة مترابطة، إذا كان يراد بالتجديد هو التطوير، فالاجتهاد هو الانتقال من طور إلى آخر يحقق فيه الإنسان آماله وأشواقه إلى حياة أكثر رقياً وازدهاراً.
إذن، فإنَّ لمقولة الاجتهاد أهميَّة بالغة في تطوير المشاريع التجديديَّة، ولكن, يجب الحذر من استنساخ الاجتهادات السابقة، وتطبيقها بمضامينها التي درجت عليه، بل يجب أنْ تكون هناك اجتهادات جديدة همها الوحيد تخليص الأنا العربيَّة من أسوار التبعيَّة الغربيَّة، وتخريجها أيضاً من بوتقة الماضي المتمثل بالتراث؛ لأنَّ الاجتهاد لم يولد إلا على أساس قراءة النصِّ الإسلامي ضمن حركته في الواقع المعاش، قراءة واعية لثوابت النصِّ وحدود الفهم المتغير لأهدافه ومقاصده, بهدف الاستجابة لإشكاليات الواقع وتكييف متغيراته واحتوائها في الفضاء المعرفي الإسلامي، فيجب على الاجتهاد أنْ يستوعب متغيرات الحياة، ويواكب تطوراتها ويلاحق الزمن المتجدد وما يفرزه من قضايا ومشكلات فكريَّة وسياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة وتربويَّة وغيرها.. ويمكن معالجتها من خلال حركة الاجتهاد الذي يزوّدها بما تحتاج إليه في التفاعل مع صيرورة الحياة. لذلك جاء التركيز على أهميَّة الاجتهاد في بلوغ إمكانيَّة التجديد، كون الاجتهاد في عصرنا الحالي لا يمثل حاجة عرضيَّة، أو يكون جائزاً فحسب، بل هو اليوم فرض وضرورة ملحة، من أجل إمكانيَّة استعمال الفهم الخاص بعيداً عن الآراء والاجتهادات السابقة. ويمكن من خلال الاجتهاد أنْ نخرج من حالة القصور المفروضة علينا نتيجة الإيمان بضرورة العكوف على اجتهادات موروثنا، في حين يقتضي التجديد استعمال الفهم الخاص بمعزل عن اجتهادات الآخرين.